كتاب 11
عن العشق و الهوى
تمر بنا الحياه حاملة معها تجارب كثيرة من بينها تلك التجربة الوجودية العظمى و ربما هي سر الحياة و أساس بقائها ، هي تجربة الحب التي تتغلغل في أعماقنا منذ نعومة أظافرنا ، فهي تلك الغريزة الإنسانية الفريدة من نوعها ، التي قد تقتحمك دون سابق إنذار فتعصف بجسدك و عقلك و روحك ، فلا تعود بعدها مثلما كنت قبل أن تجتاحك أبجديتها و معانيها ، فجسدك صار مشرقًا و لمعة عينك قد أضاءت الكون حولك ، و روحك صارت أكثر إبتهاجًا وبريقًا ، فالرجل لا تكتمل رجولته دون حب ، و المرأة لا تزهو أنوثتها و تنضج دون حب.
و التعبير عن الحب في الشرق الاوسط هو ضعف و في أحيان كثيرة جرم ، في حين يتفنن الغربيون في التعبير عنه ، فهو اسمى المشاعر الإنسانية التي يتفاخرون بها ، فلم يكن يأسرني في شوارع نيويورك الصاخبة سوى مشهد إمرأه و رجل مسنان ، بلغا من الكبر ما يجعلهما يسيران بصعوبة و بخطوات متثاقلة و لكن يمسك كل منهما بيمين الآخر و كأنه يسانده ما تبقى من الحياه ، و ينظر كلاهما للآخر نظرات ملؤها الحب و الأمان، و كأن كل منهما يمنح الآخر نسمات الهواء التي تبقيه على قيد الحياه ، دون خجل من العمر الذي لم يترك لهما الكثير ، ذهبت القوة و بقي الحب و الإخلاص و الوفاء ، و تخيلت لو حدث مثل هذا المشهد في مصر لما كان من المارة سوى الإستهزاء بهم و نعتهما بكل أنواع السباب على أقل تقدير :”روحوا اتدفنوا يا جدو ” .
أول حب هو آخر حب هو الحب الذي لا يأتي بعده حب ، هو ذلك الحب الذي يحتلك فلا يترك بك جزء تستطيع ان تنبض به لشخص آخر …هو إحتلال العقل و الجسد و الروح ، إشباع ذلك الثالوث إشباعًا متكاملا،…شرطه الوحيد كما ذكر دكتور مصطفى محمود في كتابه مقتطفات من كتاب الإثم و البراءة أن تكون النفوس خيرة أصلا جميلة أصلا، و الجمال النفسي و الخير هو المشكاه التي يخرج منها هذا الحب ، فتناسب النفوس و الطبائع وهو الأهم قبل تناسب الأجسام و الأعمار و الثقافات ، فلا يمكن أن تتحلى بالصدق و تعشق كاذبًا ، أن تحمل قلبًا رقيقًا و تحب من هو بلا قلب ، أن تكون وفيًا أمينًا و تحب خائنًا ، أن تكون ذكيًا و تحب غبيًا ، أن تكون ذا علم و تحب جاهلًا ، التوافق الإنساني و الإنسجام هو أهم شروط الحب ، وإن لم يجتاحك و يعصف بك الحب فأنت لم تحب ، إن لم تشعر بنسيانك للعالم و أنت في حضرة المحبوب فأنت لم تحب حقا ، إن لم تلمع عيناك بذلك البريق العجيب فانت لم تحب حقا ، إن لم يغمرك الحب بالسعادة و يمنحك الطمأنينة و السكينة فأنت لم تحب حقا ، إن لم تشعر بالدفء في يوم بارد ، و إن لم تستمتع بالحوار و أتقنت فنون الصمت و النظر فقط إلى من تحب فأنت لم تحب حقا ، و إن لم يغيرك الحب للافضل فانت موهوم بقصة غير حقيقية ، أن تحب يعني ان تتجرد من صفاتك و طبائعك السيئة ، و تتحول إلى نفس محبة لا تعرف سوى السماحة و العفو دون تكبر و عناد ،و مع كل هذه المعاني الجميلة التي يصعب أن تصف و لو جزءا من ذاك الشعور الخالد الذي اوجده الله فينا فطره كائنة منذ بدء الخلق ، يشكك الكثيرون بوجود حب حقيقي في هذه الحياه ، و يستنكرونه و يصفونه بتجارة الشعراء الرابحة ، و أوهامهم الرائجة ،و للمشككين أقول أنه و إن كان نادرًا إلا انني لم أفقد إيماني به و لو للحظة ، إنه موجود طالما نبضت تلك القلوب الخيرة الطيبة بالحياه ، إنه موجود طالما وجد الأمل ، وإن كان حلما بعيدًا المنال أدرك جيدا أن ليس جميع البشر محظوظين بمصادفته ، و لكني لم أظلمه أو ألق باللوم عليه طرفة عين ، فهو برىء من خيباتنا و آلامنا ……فنحن و بمحض إرادتنا الكاملة نرتدي عشرات الأقنعة و نخفي أكاذيبنا الكبرى خلف كل قناع منها ثم نسئ الإختيارو نعود لنلعن اقدارنا …..و نكفر بالحب … معضلة هي الحديث عن الحب …و المعضلة الاكبر أن نعثر عليه في بلادنا.