كتاب 11
مرافعة لولاة الأمر لإيقاف القرارات الجديدة
تفاجأ المجتمع السعودي بقرارات مجلس الوزراء الصادرة يوم الأثنين 26 سبتمبر 2016 والتي تقدم بها وزير الخدمة المدنية لكي: تمنع، وتلغي، وتعدل، وتوقف، وتخفض علاوات وبدلات ومكافأت ومزايا مالية لموظفي الحكومة. المثير أن القرارات الصادمة صدرت بعد ثلاثة أيام فقط من الفرحة بإحتفالات اليوم الوطني. ومهما تكن الأسباب التي دفعت بوزير الخدمة المدنية للتقدم بهكذا مقترح، فأننا نجادل : بأن التوقيت كان غير مناسب؛ وأنه كان بالإمكان إيجاد بدائل أفضل تحقق الأهداف؛ وأنه كان من الحكمة لو شارك عدد أكبر من أهل الرأي المستقلين في دراسة المقترح والتوصيات والقرار. ولذا تقع الملامة أولاً، على وزير الخدمة المدنية الذي إقترح؛ وتقع الملامة، ثانيا، على الخبراء باللجنة العامة الذين أوصوا؛ وتقع الملامة، ثالثاً، على مجلس الشئون الإقتصادية والتنمية الذي مرر؛ وتقع الملامة، رابعاً، على مجلس الوزراء الذي صادق على القرار؛ ويقع العتب، إبتداءاً وإنتهاءاً، على ولاة الأمر الذين سمحوا للحكومة بمفردها أن تتولى أمر بالغ الأهمية والحساسية. ولذا، فإننا نتوجه لهم، بكل العشم، أن يوقفوا تنفيذ القرارات الجديدة حتى يتم إعادة دراستها من جهات مستقلة ومحايدة خارج إطار الحكومة.
أولاً: يعرف وزير الخدمة المدنية، الذي جاء من القطاع الخاص، أكثر من غيره: (1) أن دخل الموظف الحكومي الشهري بالمجمل: الراتب الأساسي (+) البدلات، والعلاوات، والمكافأت، والمزايا (=) الراتب الكلي (-) حسومات التقاعد (=) الراتب الفعلي، متدني أساساً؛ (2) أن ما سمي علاوات وبدلات ومكافأت ومزايا ليست إلا حيلة فنية إبتدعه جهابذة وزارتي الخدمة المدنية ووزارة المالية في “الزمانات” لرفع الراتب “الأساسي” المتدني أصلاً الذي كان يقبضه الموظف في نهاية الشهر كراتب فعلي؛ (3) أن الإضافات من علاوات سنوية هي لخلق إستدامة للموظف في العمل كما تقضي أصول وقواعد الموارد البشرية؛ (4) أن العلاوة السنوية تهدف إلى عدة أمور من أهمها مواجهة غلاء المعيشة المتزايد بشكل مستمر؛ (5) أن كثير من العلاوات والمكافأت والمزايا هي لتوجيه الموظف نحو مهن ووظائف يحجم عنها البعض؛ (6) أن الخطأ، إذا كان هناك من خطأ، فهو في الممارسة وإستغلال تلك البدلات والعلاوات والمكافآت والمزايا المالية في غير ما خصصت له، مما زاد في النفقات.
ثانياً: لم يستبق وزير الخدمة المدنية هذه القرارات بـ (1) دراسة حديثة وافية شاملة ومحايدة لدخل الفرد والعائلة السعودية ونشرها للرأي العام لإبداء ملاحظاتهم وتلقي أرائهم ونقدهم على غرار ما قامت به مؤسسة الملك خالد الخيرية قبل أعوام في دراسة بعنوان “خط الكفاية”؛ (2) لم يستبق الوزير أو المسئولين في وزارته تقديم المقترح بإجراء ندوات ومناقشات عامة في التلفزيون ووسائل الإعلام المختلفة؛ (3) لم يمر المقترح ولو شكليا على مجلس الشورى الذي من مهماته الأساسية دراسة الأنظمة وتعديلاتها، ولكن تم تجاوزه لأسباب غير معروفة؛ (4) سيؤدي تعديل الرواتب والمميزات إلى تسرب بعض الأكفاء من الموظفين إلى خارج منظومة العمل الحكومي؛ (5) القطاع الرديف للتوظيف عوضاً عن الحكومة وهو القطاع الخاص ليس في وضع مناسب لإستقطاب التسرب من القطاع الحكومي؛ (6) نسبة كبيرة من ملاك المنشآت الصغيرة جداً والصغيرة والتي تربوا على (1.2) مليون منشأة هم من موظفي القطاع الحكومي، حسب دراسات وزارة العمل، لزيادة دخلهم المنخفض أصلا بالرغم من كامل البدلات والعلاوات والمكافأت والمزايا؛ (7) كما أن نسبة كبيرة من التستر التجاري والعمالة السائبة التي تسرح وتمرح في بلادنا بالملايين تعمل لدى كثير من موظفي القطاع الحكومي لتحسين دخلهم.
ثالثاً: كان حري بالخبراء في اللجنة العامة لمجلس الوزراء أن تتروى وتتريث وتبحث إقتراح وزير الخدمة المدنية من كافة الجوانب، وأن تستعين بأهل الخبرة من مؤسسات القطاع الخاص المتخصصين في الرواتب والمميزات Compensation & Benefits أو خبراء هيكلة الأجور Wages Structuring، وخبراء وزارة الإقتصاد والتخطيط، وخبراء البنك الدولي الذين يعملون لديها، والمؤسسة العامة للتقاعد، وبعض لجان مجلس الشورى، لمعرفة الإنعكاسات على الإقتصاد الوطني. كما أن منع وإلغاء وتعديل وإيقاف ما يقارب 30% – 50% من دخل موظفي القطاع العام سيكون له إرتدادات على التوظيف الحكومي، وجودة الأداء، وجاذبية بعض التخصصات الحكومية، ناهيك عن أثاره العكسية على القطاع الخاص والسوق بشكل عام. لكن المقترح مر بتسارع يدعو إلى الدهشة إذ لم يستغرق المقترح في اللجنة أكثر من أسبوع لترفع بتوصياتها لمجلس الوزراء بإقرار مقترح وزير الخدمة المدنية.
رابعاً: مرر مجلس الشئون الإقتصادية والتنمية مقترح وزير الخدمة المدنية من دون إجراءات الشفافية التي سوّقها في رؤية 2030 أو إجراءات الحوكمة الرشيدة التي ذُكرت في وثيقة برنامج التحوّل الوطني عشرات المرات. فقد كان القرار مفاجئاً للمجتمع، وكان يستحسن بالمجلس أن لا يمرر مقترح أو قرار يمس دخل المواطن مالم يأخذ كل متطلبات الشفافية من عرض ومناقشة عبر جميع الوسائل المتاحة وتهيئة المجتمع لهذه القرارات. طبخ الأراء والمقترحات في دائرة المجلس فقط ورفعها لمجلس الوزراء للمصادقة عليها أمر هيّن ويسير، وهو ما دأبت عليه أعمال الحكومة في الماضي، وكان من المتوقع أن نشهد إجراءات جديدة تأخذ بعين الإعتبار: أولاً، المتضرر ونعني بذلك الموظف الحكومي بإجراء إستبيان شامل لكافة موظفي الحكومة؛ وثانياً، العرض والمناقشة مع المجتمع بكل الوسائل المتاحة؛ ومن ثم، ثالثاً، طرح القرار في صيغة شبه نهائية يطلق عليها”الورقة البيضاء” لمدة لا تقل عن (6) أشهر لإستمزاج الأراء و تلقي المقترحات قبل تقديمه للمصادقة عليه من مجلس الوزراء.
خامساً: إرتكب مجلس الوزراء خطأ بعدم تمرير المقترح كما هو معمول به، أحيانا، عن طريق مجلس الشورى، خصوصاً وأنه موضوع حيوي وحساس يمس شريحة كبيرة من المجتمع السعودي. إخضاع موضوع كهذا لأكبر عدد من الخبراء والمختصين هو رسالة واضحة للمجتمع بأن أي أمر يمس حياتهم المعيشية ورفاهيتهم هو خط أحمر لابد أن تتوافق عليه مؤسسات الدولة خارج مجلس الوزراء. الحكومة هي السلطة التنفيذية وهي جزء من مؤسسات الدولة وبإشراكها جهات أخرى خارجها تتناقص الأخطاء ويتزايد الصواب. قد يقول قائل: أن وزير الخدمة المدنية ينفذ رغبة للسلطة التنفيذية لترشيد الإنفاق أو خفض المصروفات. ونقول: لابأس، فنحن جميعاً قد نتفق على الأهداف، لكن قد يأتي الأختلاف حول السبل والوسائل المؤدية لتلك الأهداف. الخطأ الذي إرتكبه مجلس الوزراء لا يختلف عن أخطأ كثيرة حدثت خلال العقود الماضية، فما هو التغيّر الذي حصل في أسلوب ممارسات المجلس للإطمئنان على أن القرارات تصدر مستوفية كل الشروط لعلاقة متميزة بين الحكومة والمجتمع؟
سادساً: يعود الأمر جله وكله بين يدي ولاة الأمر: الملك، وولي العهد، وولي ولي العهد، حفظهم الله وأعانهم. بمعزل عن كون ولاة الأمر هم ذاتهم، الرئيس والنائب الأول والنائب الثاني لمجلس الوزراء. فعلاقة الشعب بهم، والثقة فيهم، والبيعة لهم. أما الحكومة، شأنها شأن سائر الحكومات، ترى بعين بيروقراطية، وعين أخرى رقمية، ولا يلتفتون في الغالب الأعم لتلك العلاقة المعنوية بين الحاكم والمحكوم (الملك والشعب) ولذا يطلق على الحكومات “التكنوقراط” لأنهم تقنيين أكثر. الحكم في السعودية ملكي تقليدي يعظّم العلاقة بين الفرد (المواطن) والملك، وليست الحكومة سوى وسيلة من وسائل الإدارة ووسيط بين مؤسستين هامتين: الملك ( ولاة الأمر)؛ والمواطن الفرد (الشعب). ولطالما كان تبديل الحكومات أسلوباً متبعاً وتقليداً إداريا سياسياً متعارف عليه للوصول إلى تناغم وقوّة في العلاقة بين الملك والشعب.
سابعاً: أثبت التاريخ أن الحكومات كانت سبباً رئيسياً في ضعف وهشاشة وفشل الدول، خصوصاً إذا ما كانت سلطة الحكومة شبه مطلقة. ربما يكون النموذج السعودي متميز قليلاً بمشاركة ولاة الأمر في الحكومة، وتمتعهم بالثقة المفرطة من كافة أفراد الشعب لكن ذلك التميز حساس. فالحكومة، تظل هي الحكومة والسلطة التنفيذية لها ماللحكومات وعليها ما على الحكومات. الجديد هنا هو: عدم وجود حوكمة خارج إطار الحكومة؛ وتعقيدات الإدارة؛ وتوسّع مجالات عمل الحكومة؛ وزيادة مطالب التنمية؛ وضعف الوزراء؛ وتسارع الزمن؛ وتنامي وعي الشعب؛ وإتجاه الأجيال الشابة نحو محاكاة الأمم الأخرى، كل العناصر السابقة وغيرها تؤدي بالحكومة إلى القصور والتقصير. عجز الحكومة في الماضي ثبت بدليل إستحداث رؤية 2030 وبرنامج التحول الوطني الذي يشكل جوهره تطوير وتحسين الأداء الحكومي، ولكن هذا لا يكفي. ولذا، فإن إستعانة ولاة الأمر بمؤسسات وهيئات وأفراد من المجتمع خارج إطار الحكومة يحقق أمرين: (1) توازن في إتخاذ القرارات وحوكمة رشيدة؛ (2) المحافظة على رصيد ولاة الأمر من الثقة بينهم وبين الشعب بعيداً عن سلبيات الحكومة.
ثامناً: تمر السعودية بمرحلة تحوّل حرجة تتطلب أمور كثيرة منها: خفض النفقات؛ وترشيد المصروفات؛ وتفعيل الأداء الحكومي؛ وهو مطلب دائم، لكنه يتعاظم مع نفقات طارئة تمر بها البلاد في الوقت الحاضر، إضافة إلى تناقص حاد قد يستمر لأعوام في مداخيل النفط الذي كان المصدر شبه الوحيد للدخل، وتزايد حاد في متطلبات التنمية وحاجات المجتمع، وهذا أدعى وأحوج إلى ثلاثة أمور: (1) أن تتسع دائرة إتخاذ القرار السياسي لتشمل أكبر عدد من مؤسسات الدولة وخبراء المجتمع; (2) إيجاد بدائل متدرجة تضع الطبقات المتوسطة والمتدنية في الإعتبار لضمان الحد الأدنى من الإرتباك المعيشي والمجتمعي؛ (3) تنوير الرأي العام عبر وسائل ووسائط متعددة وتهيئة المجتمع لكي يكون شريكاً فعّالاً في مرحلة التحوّل الحرجة التي تمر بها البلاد. كما أنه من السهل واليسير على أي وزير أو خبير أن يحل المشكل بتخفيض الرواتب والمميزات، أو زيادة الرسوم والضرائب لخلق توازن بين الإيرادات والنفقات، لكن مثل هذه الحلول ليست سهلة ويسيرة كما تبدو للوهلة الأولى فنتائجها صعبة ومعقدة.
تاسعاً: نتوجه إلى ولاة أمرنا: الملك وولي العهد وولي ولي العهد، بمقترحين: (1) أن يتم إلغاء هذه القرارات أو إيقافها بشكل مؤقت، حتى يتم تمريرها على مجلس الشورى والعديد من الهيئات المختصة في القطاعين الحكومي والخاص لمزيد من الدراسة والبحث أو إقتراح بدائل أفضل تأخذ في عين الإعتبار مصلحة الفرد المواطن صاحب الدخل المتوسط والمتدني؛ (2) أن تكشف الحكومة عن كامل خططها المستقبلية في خفض دخل موظفي القطاع العام مدنيين وعسكريين، وتكشف، أيضاً، عن نيتها أو خططها في رفع الرسوم وفرض الضرائب خلال الخمس سنوات القادمة، لكي يتسنى للمواطن معرفة وتخطيط حياته سواء كموظف في القطاع الحكومي أو الخاص، أو طالب سيدخل لسوق العمل، أو منتسب لقطاع الأعمال؛ (3) أن يتم تشكيل هيئة مستقلة ومتخصصة في حوكمة قرارات مجلس الوزراء ريثما يصار إلى تنظيم يسمح بمزيد من المشاركة للتخفيف عن كاهل الحكومة ومساعدتها على تجنب أي أخطأ.
أخيراً، أثبتت الأيام أن العلاقة بين ولاة الأمر والشعب راسخة وقوية على مر الزمن وفي كل الظروف والأحوال. لكن الأيام أثبتت، أيضاً، أن بعض أراء وتوجهات الحكومة وقراراتها في الماضي لم تكن صائبة أو حكيمة على الدوام، أما في الأهداف أو النتائج أو الوسائل أو البدائل أو التوقيت أو الممارسة أو التنفيذ، وبالتالي النفقات الضخمة والفخمة. ولذا فليس لنا من بد أو سبيل سوى التوجه لولاة أمرنا لإنصاف المجتمع والوقوف أمام وجه الحكومة وتخفيف إندفاعها نحو أي زيادة للرسوم والضرائب، أو إنقاص الرواتب وما يتبعه من إضافات تمس دخل المواطن وحياته ومعيشته. أما وزير الخدمة المدنية الذي تمخض فكره عن هذا المقترح، أو وزارته التي سبق أن تعددت المطالبات بدمجها مع وزارة العمل لتشكيل وزارة للموارد البشرية وتوفير تكاليفها، فليس أقل من أن يلحق وزير الخدمة المدنية بزميله وزير المياه السابق، فالإعفاء إشارة واضحة من ولاة الأمر إلى أن المواطن وحياته ومعاشه خط أحمر. ختاماً، المرحلة الحرجة التي تمر بها بلادنا تتطلب مزيداً من النقد والرأي الصادق والمخلص لولاة الأمر وسنستمر في ذلك بعون الله، بمزيج من الولاء والإنتماء والحب والخوف. حفظ الله الوطن.
كاتب سعودي
turadelamri@hotmail.com
@Saudianalyst