كتاب 11
العرب السعداء
أظن أن معظم العرب قد فرحوا بفشل الانقلاب العسكري ضد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان. بعضهم فرح لأنه في الأساس ضد الانقلابات. وبعضهم فرح لأنه مع الديمقراطية، بغض النظر عن موقفه الخاص من الحزب الحاكم أو قادته. لكن المؤكد أن تيار الإسلام الحركي كان أسعد الناس بما جرى، للأسباب السابقة، ولأسباب أخرى يعرفها الجميع.
ما وجدته مهما في المسألة كلها، هو معنى الفرح العربي بما جرى. وأستذكر هنا حلقة نقاش عميق عقدت قبل عقد من الزمن، حول سؤال: هل سيكون وصول الإسلاميين إلى السلطة عاملاً في تجديد الدين، أم سببًا لتلويثه بعيوب السياسة؟
لفت نظري في تلك الحلقة حديث حماسي لأحد زعماء الإخوان الخليجيين حول خطورة ما سماه الإسلام الأميركي، الذي قال إن مؤسسة «راند» البحثية المعروفة تعمل على تسويقه. وفحوى تلك الفكرة أن واشنطن وضعت خطة كلفتها نصف مليار دولار، تستهدف فرز الجماعات الإسلامية القادرة على التكيف مع النظام الدولي من تلك المعادية له. ثم فتح أبواب السياسة أمام الصنف الأول. وقال المتحدث إن المقصود في نهاية المطاف هو تصنيع تيار مائع ذي مضمون علماني أو شبه علماني، يتغطى بعباءة الإسلام. وذكر في السياق عددًا من الجماعات الإسلامية التي دخلت فعليًا في هذه الخطة، من بينها حزب العدالة والتنمية، الذي لولا تنازلاته في الجانب السياسي والعقيدي، لما سمح له الغربيون بالفوز في الانتخابات التركية.
بعد سنتين تقريبًا من ذلك النقاش، التقيت صدفة بالرجل، فأخبرني أنه عاد للتو من اجتماع شارك فيه نظراء له من دول عربية كثيرة، وأنه نصحهم بتبني خطاب سياسي ديمقراطي، لأن الساحة تغيرت، وأن الديمقراطية هي طريق المستقبل لمن أراد أن يؤثر في عالم اليوم.
سألته إن كان لنجاحات حزب العدالة والتنمية تأثير في تغير المزاج السياسي لأعضاء الجماعة. فقال إنه التقى شخصيًا بعدد من زعماء الحزب ورجال الدين الذين يدعمونه، فاكتشف أن الخطاب الديمقراطي الذي يتبناه، أقرب إلى مرادات الدين في هذا العصر، وأن فكرة «خلافة على منهاج نبوة» ليست قابلة للتحقيق في عالم اليوم، ولذا فالتمسك بها عبث لا طائل تحته. وذكر عددًا من الأمثلة على هذا.
أميل شخصيًا إلى الظن بأن السعادة الغامرة للإسلاميين تأتي في سياق المقارنة بين ما جرى في تركيا، وما جرى في مصر سنة 2013. وضمن هذا الإطار فهي نوع من الشعور برد الاعتبار السياسي. إلا أن من المهم التأمل في اللغة المستخدمة للتعبير عن هذا الموقف. وهي لغة يغلب عليها الإقرار – ولو ضمنيًا – بفضائل الديمقراطية وتمجيد الحريات المدنية وتقبيح «التغلب» وسيلة للوصول إلى السلطة.
هذا لا يرقى بطبيعة الحال إلى مستوى التبني الكامل للخطاب الديمقراطي، والنبذ النهائي للعنف والمعتقدات التي تدعم الإقصاء والاستئثار بالسلطة أو النفوذ. إلا أنها تشير بالتأكيد إلى أن التيار الديني الحركي يتخلى بالتدريج عن إرثه التاريخي العتيق.
أعتقد بأن تحول الثقافة السياسية للمجتمع العربي هو أمر في غاية الأهمية، ولو كان بطيئًا. كما أعتقد بأن التحول في التيار الديني يكتسب أهمية خاصة، لأنه لعب خلال نصف القرن الماضي دور حارس التقاليد، والمولد الرئيسي لقلق الهوية.
أمام العرب طريق طويل قبل اكتمال التحول في الثقافة السياسية. لكن بالنسبة لمراقبين مثلي، فإن التحولات الصغيرة المتوالية، تشكل دليلاً على ما نخاله ضوء في آخر النفق.
مقالات سابقة