مصر الكبرى
“من المؤكد أن بعض الوحي في متناول اليد” – فن النحت المصري في القرن العشرين والغد
كتبت – نور سليمان 
في غمرة الشعور بالفخر والاعتزاز كان هنالك صوتا قويا يصدر من الأبواق مقرونا بصوت أقوى من أقدام الجنود المنتظمين في مسيرتهم على إيقاع الطبول، حيث كان هنالك إحساس باليقين والتأكيد يهيمن على الأغنيات الوطنية المصرية بعد عام 1952. لقد كانت موسيقى أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب تتسم بالشجاعة والأمل، وكانت الكلمات بسيطة ومتعمقة تجعلك تشعر بالاطمئنان إلى نصر تم تصويره بصورة ساذجة.     
في عالم ما بعد الحداثة الذي نعيش فيه، وخاصة في فترة ما بعد الثورة، لم تعد النظرة للأشياء تتم بهذا التأكيد والبساطة. إن التفاؤل السائد والمحض بصوت الحرية قد أفسح المجال للشعور بخيبة أمل سوداوية وعزيمة فاترة مصداقا لمقولة "إثبت مكانك". ولكوني قد ابتعدت كثيرا عن مصر جغرافيا ولكن أيضا نفسيا ووجدانيا، فقد بدت لي الأشياء ملتبسة من حيث أنا. ولكن في هذه الأيام الخضراء والمبكرة من عمر الثورة، لا بد أن تكون الأشياء أيضا مثيرة للارتباك وربما للجنون في بعض الأحيان.       
فأنا لستُ متابعا جيدا للأحداث السياسية، وبالتالي فإن كل ذلك يستحضر في ذهني أولئك الفنانين الذين تشعُ أعمالهم بقوة هائلة وحيوية متألقة ، لأنها رغبة جامحة للمضي قدما نحو إجراء تغيير فعال وإيجابي في أزمنة الاضطراب والحراك الكبير، فنانين من أمثال محمود مختار، وجرجيس صباغ، ومحمود سيد وآدم حنين.        
فلوحة محمود مختار "مصر تصحو" المصنوعة من الجرانيت الوردي، تعتبر لوحة ثابتة وتذكارية بشكل مميز، وحديثة وشبه شعبوية من حيث مقاسها الكبير، والمرأة وأبو الهول والتعبيرات الفارغة والشخصيات متلبدة الأحاسيس، خليط من الماضي والحاضر. إنها بكل بساطة تذكر المرء بفن الدعاية الاشتراكية في أمريكا الجنوبية أو حتى في أماكن أقرب إلينا بكثير كبغداد حيث لوحة جواد سالم "لحظة الحرية" والتي تقتبس من كل من اللغة الفنية في بلاد ما بين النهرين (العراق) فضلا عن المدارس الحداثية في أوروبا. أما لوحاته البرونزية فهي مستوحاة من فترة عبد الكريم قاسم بعد سنة 1958 مع سقوط الملكية، تماما كما استلهم مختار لوحاته من فترة سعد زغلول وثورة سنة 1919.
اللون الجرانيتي الوردي، اللون المفضل في مصر الفراعنة، فهو أيضا اللون المفضل لدى النحاتين في مصر الحديثة في القرن العشرين، سواء كان مصقول أم خشن. وآدم حنين أيضا يستخدم هذا اللون بمزايا كبيرة، مستكشفا الإمكانيات الكبيرة التي تميز الحجر من خلال صقل وتلميع أسطحه التي تتوهج وتتموج كالحرير، ولكنها لا تزال تتمتع بصلابة وقوة الجرانيت والفن الفرعوني الذي لطالما افتتن به حنين منذ الطفولة.
أعمال حنين تتميز بانسيابية خاصة ، فيها نعومة وشاعرية تختلف عن تلك التي تتميز بها  لوحة "مصر تصحو" ولكنها أكثر شبها بلوحتة مختار خمسين.
في هذه الأعمال التذكارية الملحمية القوية الرائعة، خاصة لوحة "مصر تصحو" ، فإنني كثيرا ما أتذكر كلمات الشاعر ييتس. وفي ضوء هذه الثورة، قد يفكر الكثيرون في "أوزيماندياس" بقصيدة الشاعر شيلي والذي يجلس ورجليه الكبيرتين مغمورتين في الرمال المتحركة بينما آثار النظام السابق يتم كنسها تدريجيا. لكن يبدو أن ييتس في "المجيء الثاني" يتحدث إلى حالة الاضطراب التي تجتاح مصر حاليا. حيث كتب ييتس: "أشياء تتداعى؛ المركز لا يتماسك؛ / الفوضى العارمة تجتاح العالم، / انتشار العنف الدموي في كل مكان، / اغتيال البراءة؛ / الأفضل يفقد كل اقتناع بينما الأسوأ يغمرهم الانفعال". وفي ظل كل هذا الارتباك الكابوسي الغامض لكن الميال أيضا إلى زمننا هذا، من المؤكد أن ييتس سيصاب بالدهشة "من المؤكد أن بعض الوحي في متناول اليد / من المؤكد أن المجيء الثاني على وشك الحدوث" عندما يظهر الوحش العظيم ويطل علينا بجسم أسد ورأس إنسان، وهو يحرك فخذيه البطيئين، بدون أي تعابير ومتبلد الإحساس، يظهر "وهو يمشي مترهلا باتجاه بيت لحم لكي يولد من جديد". إن فخذي أبو الهول المتحركين عند ييتس تشبهان كثيرا الرجلين الأماميتين المتصلبتين لأبو الهول عند مختار وليس كرجلي أبو الهول الجيزة الرابضتين.                            
لقد شهدت مصر الكثير جدا والقليل جدا خلال القرن الماضي، خاصة في العقود القليلة الماضية، وأن فن النصب التذكارية لعصر مضى، بما في ذلك أحلام وأوهام الناصرية، نفس تلك الآمال الجامحة الساذجة ستضطرم من جديد، ونتمنى لتلك الأرجل أن تنثني وتتحرك وترتفع إلى الأعلى نحو رؤية أكثر وضوحا تتحرك بعيدا من الربيع والشتاء إلى عصر الحقيقة غير الساذجة والتي لا تغوص في مستنقع الرمزية والكلمات الرنانة، ولكن بنعومة مثمرة ورحمة واعية.
نبذة عن الكاتب
نور سليمان تخرجت مؤخرا بدرجة في الأدب، وهي تعيش في الكويت وتعمل في المجال الثقافي وقد ظلت دائما تساهم في الصحافة الفنية المحلية خلال الأربع أو الخمس سنوات الأخيرة. وتقوم بكتابة القطع الفنية والأدبية والموسيقية للمدونات المحلية والإقليمية، وهي متفرغة للتواصل في عالم المشاهد الثقافية مع قرائها. وقد كتبت نور في الموسيقى الكويتية، وفي مختلف الفنون والآداب العربية والخليجية والكثير من المنشورات الأخرى.