كتاب 11
هل انتهت معركة ميدان تقسيم؟
عشرات الآلاف من الأتراك في إسطنبول وبقية تركيا تجمعوا في ميدان تقسيم للاعتراض على تخطيط حزب العدالة والتنمية التركي، لتحويل هذا الفضاء المدني إلى مولات تجارية وجامع.
المعركة لم تكن هبّة عشوائية ضد حكومة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وسياساتها، بل كانت على تغول حكومة نستطيع أن نقول عنها إنها وضعت الدين في ساحة متاجرة، في محاولة لاستلاب المساحات المدنية في إسطنبول.
رأى الأتراك وبسرعة رمزية هذا التوغل على ميدان تقسيم (نفس المعنى بالعربية، فالميدان كان يقسم المدينة منذ عهد السلطان محمود)، فقامت قيامتهم، وامتلأ الميدان بالشباب، ودخلوا في مواجهات مع البوليس، وكان اللافت للنظر أن المحتجين كانوا من العلمانيين في المجتمع التركي. إنها معركتهم على المساحات المدنية الخضراء ضد تغول الحكومة التركية التجارية (المول وطبعًا جامع لتخفيف فجاجة المول التجاري ضد خضرة الميدان ومدنيته). رمزية جسدت المعركة على هوية تركيا وروحها. أي دولة ستكون تركيا؟ وما هي مساحات المتاجرة بالدين مقابل المساحات المدنية في المجتمع؟ رمزية ميدان تقسيم حيث يحتوي على مجسم الجمهورية، وتمثال أتاتورك، تعني تركيا الحديثة، مقابل تركيا التجارية حسب رؤية حزب العدالة والتنمية. احتجاج الناس عندما تتغول المولات على المساحات الخضراء، أو احتجاجهم على نظام جديد يقتطع من الفضاءات العامة لتوسيع المساحات الخاصة (الفساد) هي أولى علامات المدن الحيّة، التي ما زالت تجري في عروقها روح المدانة (civic sensibilities).
في الحديث عن العمارة والسياسة، غالبًا ما يجهل المعماريون التبعات السياسية لتخطيطهم للمباني والميادين، ونفس الشيء يمكن أن يقال عن أن الساسة يجهلون العمارة وتخطيط المدن. ولكن العمارة والحياة بشكل عام هي علاقة ثلاثية بين المكان والزمان والإنسان، وأن الإنسان هو الذي يعترض ويحتج، عندما يقام مبنى جديد في المدينة، فهو يعرف بفطرته رمزية البناء وتخطيط المدن حتى في الدول الديمقراطية.
ففي ألمانيا مثلاً كانت هناك معركة على مشروع يخص السكك الحديدية في مقاطعة شتودجارت، مشروع تبنته الحكومة الفيدرالية، ومع ذلك اعترض أهالي شتودجارت على مشروع من وجهة نظر الحكومة الفيدرالية، هو من صميم صلاحيتها، وفيه خير كثير لأهالي المقاطعة، ولكن الناس رفضوا، وكان أساس رفضهم ليس تغيير طبيعة المكان، ولكن لتحديد من الأقوى في تحديد تخطيط المقاطعة: هل هي الحكومة الفيدرالية في بون أم هي حكومة المقاطعة المحلية؟ أساس المعركة كان على المباني، ولكن ما لبثت أن أصبحت معركة عن من الأقوى: الحكومة المحلية أم الحكومة الفيدرالية؟
معركة ميدان تقسيم لم تكن مجرد معركة على تغيير طبيعة المكان فقط، ولكن كانت معركة مكان أصبح رمزًا لعلاقة الأتراك بحكومة إردوغان.
من يعرف تركيا وتخطيط مدنها ومساجدها وساحاتها من عمارة سنان ذلك المعماري العظيم، الذي شمل العمارة الإسلامية في القرن السادس عشر، أو المعمار الإسلامي بمعناه الواسع، لا بد أن يراوده السؤال، كيف لتفسير إسلامي أنتج عمارة سنان وجماليات الخط العربي والألوان، بينما خطّ إردوغان ينتج المولات والعمارة التي تتوغل داخل المساحات الخضراء، لو كان هذا السبيل حريصا فعلا على التراث الإسلامي، لأنتج عمارته التي نراها في العمارة الإسلامية في القاهرة ودمشق والأندلس.
الدليل على أن الحركات المعنونة بالإسلامية وتبدو وكأنها في جهة، والإسلام في جهة أخرى، هو عدم قدرتها على إنتاج عمارة إسلامية كسابقتها، كما هو الحال في العمارة الإسلامية في الأندلس والقاهرة وإسطنبول وغيرها.
معركة ميدان تقسيم ربما خمدت إلى حين، ولكنها معركة بنيوية على روح تركيا متمثلة في زحف عمارة التجارية المتغولة على المساحات الخضراء، مقابل عمارة الإسلام السمح التي مثلها سنان والمعماريون الأتراك من بعده، هذا من ناحية، وهي أيضًا معركة بين معمار الفاشية المخلوطة بالرأسمالية المتوحشة في خيال المولات التجارية الردئ، مقابل الفضاء المدني العلماني الذي يمثله تخطيط المدن وميادينها في عهد مصطفى كمال أتاتورك.
الميادين والعمارة وتخطيط المدن ليست معارك عمارة، بقدر ما هي معارك على هوية المكان وذاكرته، وعلاقة ذلك بحرية البشر في الحركة في فضاء حر.
تحويل ميدان تقسيم إلى مول فيه موت السياسة، وموت للذوق والجمال. معركة تقسيم لم تنته بعد.
سواء كنت في ألمانيا أو في مصر أو في تركيا، معارك العمارة هي معارك سياسية في المقام الأول.