اقتصاد
الاستثمار بعد عام من مؤتمر شرم الشيخ
انشغل الإعلام الرسمى خلال الأسبوع الماضى بتقييم المؤتمر الاقتصادى الذى انعقد فى شرم الشيخ منذ عام (١٣ مارس ٢٠١٥) وبمحاولة إقناع الرأى العام بالنجاح الباهر الذى تحقق والنتائج الإيجابية التى حصدها البلد من ورائه. ولكن للأسف أن الحقيقة التى لا يمكن إنكارها ــ دون حتى الرجوع إلى أرقام أو إحصائيات كثيرة ــ أن حالة التفاؤل والثقة التى تميز بها المشهد الاقتصادى منذ عام قد حل محلها قلق شديد وتوجس من جانب المستثمرين، وأن فرصة كبيرة قد ضاعت على البلد لجذب الاستثمار فى ظل ظروف مواتية خاصة قبل انخفاض أسعار البترول، وأن الشعب المصرى عانى خلال هذا العام من ارتفاع الأسعار، وندرة فرص العمل، وتدهور الخدمات العامة.
الاهتمام الإعلامى ارتبط ليس فقط بمرور عام على المؤتمر، وانما أيضا بتواتر الأنباء حول تغيير وزارى وشيك وما يصاحب ذلك من حملات للترويج لحسن سلوك بعض الوزراء أو التأكيد على تعثر أداء الآخرين. ولكن فى تقديرى أن فشل السياسة الاستثمارية خلال العام الماضى لم تكن بسبب أداء وزير أو أكثر، بل الإنصاف يقتضى الاعتراف بالجهد الهائل الذى بذلوه جميعا. المشكلة كانت ولا تزال غياب سياسة حكومية متسقة وأولويات سليمة وأهداف ممكنة التحقيق. وفى تقديرى أن الأسباب الأربعة التالية كانت وراء هذا التدهور فى مناخ الاستثمار.
السبب الأول هو التمسك بإصدار قانون استثمار معيب، اعترض عليه وقتها أو بعد حين كل خبراء القانون والاقتصاد، ثم التمسك بعدم تعديله أو مراجعته برغم ما أدى إليه من اضطراب شديد فى الإجراءات، والتضارب فى اختصاصات الجهات الحكومية، والحد من استقلال هيئة الاستثمار. والأسوأ من القانون فى حد ذاته أنه تم تقديمه للمجتمع الاستثمارى الدولى باعتباره نقلة تاريخية ونوعية فى التشريع الاقتصادى، و«أفضل قانون استثمار فى العالم» على حد قول أحد المسئولين، ما جعل الحاضرين للمؤتمر يصدقون ويتحمسون وينتظرون، ثم يصابون بخيبة الأمل حينما تبين أن هذه الوعود لم تكن فى محلها.
والسبب الثانى أنه مع استمرار تواضع معدلات الاستثمار وضعف النتائج، عادت الدولة إلى تسخير جل اهتمامها وإمكاناتها لجذب بعض الشركات الدولية ــ خاصة فى مجال الطاقة ــ ولمتابعة عدد محدود من الاستثمارات الضخمة، بينما تراجع الاهتمام بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة برغم انها الوسيلة الوحيدة لخفض معدلات البطالة بشكل ملموس، ولإطلاق طاقات وإبداع الشباب، ولتوزيع ثمار النمو الاقتصادى بين قطاع أوسع فى المجتمع. وباستثناء قانون للتمويل متناهى الصغر قدمته هيئة الرقابة المالية ومبادرة لتمويل المشروعات الصغيرة أطلقها البنك المركزى أخيرا، فإن الدولة لم تمد يد العون أو المساعدة لهذا القطاع الذى بيده إخراج البلد من أزمتها الراهنة. وقد دار حديث أخيرا بينى وبين الدكتورة عبلة عبداللطيف، مستشارة الرئاسة للشئون الاقتصادية، عبرت فيه عن انزعاجى من أن تقتصر سياسة الدولة على مجرد توفير التمويل دون تهيئة المناخ والإمكانات لهذه المشروعات، فأكدت أن البرنامج الحكومى المرتقب سوف يتضمن إجراءات جديدة فى هذا الشأن، وأرجو أن يتحقق ذلك.
أما السبب الثالث فهو التضارب والتناقض بين أجهزة ومؤسسات الدولة فى المجال الاقتصادى. جانب من الحكومة يعمل على ضغط الإنفاق العام وخفض عجز الموازنة وجانب آخر يسلك سياسة توسعية ويصر على تنفيذ مشروعات عملاقة غير معروفة الموارد أو العائد الاقتصادى. جانب من الدولة يدعم الاتفاق مع المؤسسات المالية الدولية بما فيها صندوق النقد الدولى وجانب آخر يعتبر ذلك مساسا بالسيادة الوطنية وينكر حتى وجود مشاورات. جانب ظل يدافع عن ضرورة الحفاظ على سعر العملة الوطنية وآخر يطالب بتخفيض قيمتها. هذه التناقضات لم تكن خافية على المستثمرين الوطنيين والأجانب على حد سواء، فكان رد فعلهم الطبيعى والمنطقى هو انتظار أن يحسم البلد موقفه وأن يتحدد الاتجاه الاقتصادى بدلا من المغامرة فى مناخ غير مستقر.
وأخيرا فإن السبب الرابع هو التدهور العام فى المناخ السياسى والذى لم يعد اليوم بعيدا عن تقديرات وحسابات المستثمرين كما كان الحال فى العقود الماضية. الوضع الأمنى، والتوتر الاجتماعى، والتقييد للحريات، وملاحقة المجتمع المدنى، وسوء أداء البرلمان.
كل هذه عوامل تؤخذ فى الحسبان، إن لم يكن تقديرا واحتراما للحقوق والحريات، فلأنها تعبر عن استعداد المجتمع للتفاعل بإيجابية مع السياسات الاقتصادية الحكومية وقبول الشارع للإصلاحات الضرورية. ومن يظن أن المستثمر الوطنى أو الأجنبى لا تعنيه سوى أرقام النمو والتضخم وسعر الصرف، دون أى اكتراث للحالة السياسية والاجتماعية فى البلد، يرتكب خطأ فادحا.
أتمنى أن أرى فى بيان الحكومة المزمع إعلانه الأسبوع القادم ما يتجاوز الوعود المعتادة بتهيئة مناخ الاستثمار وإزالة المعوقات وجذب المليارات إلى رؤية أكثر وضوحا وتناغما، تعبر عن انحياز مطلوب للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتتناسق بين مختلف أطراف الدولة، وعدول عن التشريعات التى ثبت فشلها، وإدراك لضرورة تحقيق انفراجة فى المناخ السياسى، حتى لا يضيع علينا عام آخر قد تكون عواقبه وخيمة.
***
كنت أتمنى أن أختم هذا المقال بتهنئة كل أم مصرية بعيدها السنوى، ولكن العزاء واجب أولا لأهالى الشهداء الأبرار الذين سقطوا ضحية الإرهاب الغاشم على أرض سيناء، ولزملائهم وللشعب المصرى كله. قلوبنا معهم ودعائنا لكل أم بعودة أبنائها سالمين.