كتاب 11
إعادة نظر في الجامعة العربية
مرّت ستون عاما على تأسيس الجامعة العربية، وفي سن الستين في أعرافنا إما أن يحال المرء إلى المعاش أو يتم التمديد له ككفاءة نادرة، لا يمكن الاستغناء عنها، فهل الجامعة العربية بشكلها الحالي هي مؤسسة عربية لا يمكن الاستغناء عنها في سياق إقليمي مضطرب وخلافات بينية بين الدول الأعضاء تحد من قدرات الجامعة كحارس لقضايا العرب وقضايا الأمن العربي، أم أنها مؤسسة تجاوزها الزمن وتجاوزتها الأحداث؟ هناك أسئلة كثيرة ومثيرة يجب طرحها في ظل تعيين أمين عام جديد للجامعة العربية لديه من الثقة الدبلوماسية والفكرية، التي تجعله يرى في النقاش الجاد محاولة من أجل نقلة نوعية للجامعة وليس مجرد مناكفة أو نقد يهدف إلى تجريح شخصي. أحمد أبو الغيط وزير خارجية مصر الأسبق هو مفكر استراتيجي قبل أن يكون دبلوماسيا ناجحا في مسيرته العملية، من مساعد لمستشار الأمن القومي المصري في عز حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73 إلى ممثل مصر في الأمم المتحدة، إلى وزير للخارجية في ظروف صعبة، لذا ليس لدي شك في أنه سيرى في أسئلتي هنا أمرا يحبّ مناقشته وليس تجاهله.
هناك أسئلة أولية أجابت عنها استمرارية المؤسسة لمدة ستين عاما رغم الخلافات العربية، سؤال البقاء المؤسسي والاستمرارية ليس محل نقاش، ولكن الأسئلة الأكبر تخص الكفاءة في الأداء وليس مجرد الاستمرار، وسؤال الإضافة وليس مجرد الوجود، والسؤال الأول الذي يحب أن ينظر إليه الأمين العام الجديد هو تجديد المفهوم الحاكم للجامعة العربية: ما الهدف منها الآن؟ وما الذي تقدمه الجامعة، ولا تستطيع تقديمه الخارجيات العربية مستقلة؟ أي ما هو الفراغ الاستراتيجي الفكري والعملي الذي تسده الجامعة؟ وهل اختلف المفهوم الحاكم يوم إنشاء الجامعة منذ ستين عاما لطبيعة التحديات يومها، واختلاف التحديات اليوم وتأثيرها على المفهوم الحاكم للجامعة من ناحية والعمل العربي المشترك؟
في تصوري، وأتمنى أن يقبل الأمين العام الجديد، أن الجامعة تحتاج إلى retreat مكان قصي بعيدا عن الضوضاء تجتمع فيه أفضل العقول، ربما في الواحات أو بلد عربي آخر لمناقشة السؤال الأكبر وهو: ما هو المفهوم الحاكم الجديد الذي يجب أن تعاد هيكلة الجامعة العربية بناء عليه؟ ما هي الرؤية الجديدة (vision) لجعل الجامعة العربية أساسية في العمل الدبلوماسي العربي، وتحويلها إلى مكان ليس فقط لمناقشة الحد الأدنى من الإجماع العربي، بل التابوهات التي لا تناقشها الخارجيات، ويمكن للجامعة أن تناقشها بجرأة لتقدم حلولا وتوصيات غير تقليدية قد تكون مفيدة للجميع.
سؤال آخر على الأمين العام أن يفكر فيه لمدة اليومين من الـretreat هو: هل يمكن تحويل الجامعة إلى خزان أفكار تنهل منه الخارجيات المختلفة؟ وكيفية بناء هذا الخزان. هل يحب أن يكون للجامعة ذراع بحثية (أي ما يعادل معهدا للدراسات الاستراتيجية) يديره مجلس أمناء من أفضل العقول المشهود لها بترجيح الصالح العربي العام، على حساب المصالح الصغيرة والمصالح المباشرة؟ أم أن يكون للجامعة ذراع أشبه بجامعة الأمم المتحدة؟ أي مصنع إنتاج أفكار لا يحدده صاحب المال وشلته، بل المصلحة العربية؟
لا شك أن الجامعة العربية تنقصها ذراع فكرية، فالدبلوماسيات العربية بها الكثير من الكفاءات المتميزة للقيام بالمهام الدبلوماسية في شكلها الإجرائي، ولكنها من الناحية الفكرية قفر أو صحراء جرداء. فكيف للجامعة أن تكتسب احتراما عالميا لما تنتجه من أفكار ومبادرات جديرة بالنقاش؟
لدينا في منطقتنا اليوم تحديات كبرى تستطيع الجامعة العربية أن تقوم بأدوار خلاقة فيها.
الأزمة السورية مجرد مثال. فعيب في رأيي أن يلتقي السوريون في جنيف أو فيينا ولا يلتقون في القاهرة أو أبوظبي أو حتى مسقط ليتوصلوا إلى اتفاق فيما بينهم، شريطة أن تكون حرية تداول الأفكار غير التقليدية، تحت مظلة الجامعة في شكل مستقل، وليس مجرد شمل يعكس خلاف الدول الأعضاء حول طبيعة الأزمة وطرق حلها. سوريا تغيرت بهذه المواجهات وما يجب التفكير فيه ليس حل الأزمة اليوم، بل الحرب الأهلية الطاحنة التي تأتي بعد الاتفاق، فسوريا اليوم هي لبنان ما قبل الحرب الأهلية، وإن تقسيم بيروت الشرقية والغربية على محاور طائفية هو القادم في سوريا، وليس الذي تجاوزناه. الخطب جلل والقضايا معقدة وتحتاج إلى تفكير عميق، وليس ردود فعل لمصلحة فريق في الجامعة ضد فريق آخر.
هناك أزمة تعصف بالوحدة السياسية للدولة الليبية، وأخرى تعصف باليمن، والبقية تأتي، وكل هذا يحتاج إلى برنامج استشراف للمستقبل العربي بأفكار عميقة، وليس أكثر جرأة.
أكتب هذا وقد تجاوزت الخمسين، وليس لي مصالح شخصية، ولكنني أرى أن الجامعة تتطلب من الأمين العام الجديد قرارات مصيرية في إعادة طرح لمهمتها الجوهرية (recasting the vision and mission) لأنها بحالها الحالي مجرد «جراج» للمتقاعدين من الدبلوماسيين العرب، بعضهم متميز وبعضهم على مكافأة نهاية خدمة، ويجب أن يتغير هذا النمط من التفكير.
الجامعة تحتاج إلى أفكار غير تقليدية لنقلها إلى عالم القرن الحادي والعشرين وليس تركها ركاما من بقايا القرن العشرين، وظني أن الأمين العام الجديد لديه من الثقة الحضارية والفكرية أن يرى في مناقشة بعض الأفكار الجديدة إضافة للجامعة، وليس مجرد نقد لما هو قائم.
ليس لدي شك في أن الأمين العام الجديد سيكون غارقا ولشهور قادمة في مناقشة الميزانية وبنودها، وبعض القضايا الإدارية التي متى ما أنجزها أي أمين عام، فقد كل طاقته المتحمسة للتغيير. وربما هذا فخ يقع فيه كل أمين عام جديد.
من مصلحة الأمين العام هذه المرة أن يفكر خارج الصندوق، ويستعين بكفاءات من خارج «الجراج» والعالم العربي مليء بالعقول المبدعة وبالمئات في كل دولة. أحمد أبو الغيط رجل لديه من الثقة ما يكفي للخروج عن المألوف، لينقل الجامعة من مؤسسة أصبحت كخيل الحكومة تحتاج إلى رصاصة الرحمة إلى مؤسسة فاعلة محترمة تتفاعل مع المؤسسات الدولية الأخرى، وأولها الأمم المتحدة. لا بد للجامعة العربية أن تكون متكافئة (compatible) مع منظمة الأمم المتحدة حتى يسهل التنسيق بينهما.
الجامعة العربية لا بد أن تعكس ما بهذه الحضارة من بعد ثقافي وحضاري وثقل سياسي ودبلوماسي. أعلم أن الجامعة هي محصلة توافق الدول الأعضاء، ولكن الأمين العام القوي يستطيع أن يستخدم الرأي العام والموقف الأخلاقي لإجبار الدول الأعضاء لرؤية الدنيا بشكل أكثر رقيا، وأظن أن أبو الغيط يستطيع أن يقوم بذلك، إذا ما قرر ألا يكون مجرد موظف آخر في أروقة مبنى الجامعة في ميدان التحرير.