كتاب 11

10:51 صباحًا EET

الكاتب المؤثر

سألني صديق هل هناك كاتب مؤثر اليوم في العالم العربي؟ والسؤال بصيغة أخرى إذا كانت الإجابة بالنفي هو: ما الذي أدى إلى غياب الكاتب المؤثر؟ هل هي البيئة المنتجة لكبار الكتاب أو المناخ الذي يكتبون فيه؟ أم أن الكتابة نفسها أصابها عطب؟ أم أن الكاتب المؤثر موجود، ولكن ليس عليه إقبال وطلب، بمعنى أنها مشكلة المستهلك في المقام الأول وانحدار التذوق؟ إذا كان المستهلك يحب «الفالصو»، فلن يكون هناك رواج للذهب الخالص.
إذا أخذنا مصر كمثال، وهنا اتخذ من مصر مثالا لأن جماعتي لن يأخذوا الأمر بحساسية، ولكن المثال المصري ينسحب على بقية دول الإقليم كلها تقريبا. في الحالة المصرية إذا ما قارنا من حيث الكتابة الصحافية والكتابة العالية، نجد أن العهد الملكي أنتج كتابا كبارا، استمر كثير منهم إلى عهد عبد الناصر، أسماء مثل محمد التابعي وتلاميذه، مثل مصطفى وعلي أمين وإحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين ومحمد حسنين هيكل وأنيس منصور إلى موسى صبري، في الصحافة القائمة تطول، وعباس محمود العقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ولطفي الخولي ولويس عوض في الكتابة العالية. كل هؤلاء إنتاج بيئة التعليم الليبرالي الملكي، ولا أعني هنا الليبرالية كمفهوم سياسي، بل أعني مدارس وكليات الليبرال آرتس (liberal arts)، أي الكليات التي لا يتخرج منها الطالب، إلا إذا كان دارسا للكورسات الأساسية أو الأصول، كأصول الفلسفة وتاريخ الآداب والفنون وكورسات في الرياضيات والفيزياء وربطها بالفنون الجميلة، وهذا ما تدرسه كليات الليبرال آرتس في الغرب اليوم. الحاصل على درجة البكالوريوس من هذه الكليّات كالحاصل على الدكتوراه في جامعاتنا اليوم. إذن النقطة الأولى لغياب الكاتب المؤثر هي البيئة التعليمية المنتجة للكتاب وبتلوث هذه البيئة تلوثت الكتابة. وتلوثت البئر.
سبب آخر لإصابة فن الكتابة بالعطب أيضا، ربما غياب المنابر التي يطرح فيها طرح مطول، مثلما كان الحال في مجلتي «الرسالة» و«الطليعة»، أو حتى مجلات تسمح بطرح مطول على غرار المجلات الغربية الرصينة، مثل «نيويورك رفيو أوف بوكس» (of books New York review) أو «لندن رفيو» وغيرهما من المساحات المفتوحة التي تسمح بتجلي الأسلوب والمحتوى معا. اللوح، أو التمبليت، الموجود لا يسمح بظهور الكاتب المؤثر.

.
سبب آخر يتعلق برعاة الكتابة. فقد تغير الرعاة وتغير أيضًا المستهلك، فلم يعد هناك من يستهلك الأفكار الكبرى في ثوب أدبي، فقد تدنى الذوق وانحصرت الكتابة المطولة في مقالة الرأي التي لا تزيد على ألف كلمة في أحسن الأحوال وسبعمائة وخمسين كلمة أو مائتي كلمة في حالة العمود الصحافي، فمن أين يأتي الأسلوب الذي يحمل مضمونا؟ ولهذا اقتربت فكرة الكاتب المؤثر من الانقراض.
المستهلك للمعرفة عندنا، فوق وتحت، كما يقولون، أي لدى النخبة والعوام، أصبح مدخنا شرها، يستهلك كل أنواع التبغ الثقافي، مع أن الشعار عند النخب يجب أن يكون «لا للتدخين»، إلا أنهم يقربون إلى مجالسهم من يحرق ثيابهم من نافخي الكير والكراهية على حساب باعة المسك الذي تشتم منه ريحا طيبة. فضلوا أن تحرق ثيابهم بمن حولهم من البهلوانات على حساب الكاتب التنويري الذي بالضرورة قد يكون مملا، فالأفكار الجديدة وغير المألوفة إما تسبب مللا أو نفورا. فالمشكلة في جانب منها ليست أن البضاعة الرديئة تطرد الجيدة من السوق، بل المشكلة في المستهلك الذي يزداد طلبه كل يوم على البضاعة الرديئة، وعلى وجبات الشارع التي تسبب تلوثا معويا وعقليا في ذات الوقت، لكنه الإدمان!!
هناك جوائز هنا وهناك للكتابة الجيدة، ولكنها في معظمها تنقصها المعايير الصارمة التي تسمح بظهور أصوات جديدة خارج الشلل «الثقافية» المغلقة. فالمطلوب من الكاتب الجيد الذي يظن في نفسه الجدة والجودة أن يتقدم بأعماله للجنة الجائزة باحثا عن مواعيدها وعناوينها، مع أن الجوائز المحترمة عالميا تبحث عن المواهب، ولا تأتي إليها المواهب. الموهوب لا يأتي ولا يطرق الأبواب، أما من لا يكل ولا يمل من الطرق فهم أصحاب نصف الموهبة، الذين يصلون بالإلحاح وبالقرب. لذا ترى ما ترى، على السطح فقط من طرقوا الأبواب كثيرا ومهنتهم الطرق لا الكتابة، ولهذا تسمح ضجيجا ولا ترى طحنا. المستهلك هو المشكلة.
انتقل المستهلك اليوم لرسائل سريعة أشبه بتناقل الأخبار والنميمة مثل «فيسبوك» و«تويتر» وغيرهما من الوسائل الجديدة، التي كتبت عنها هنا على أنها أدوات انغلاق فكري لا أدوات انفتاح («الفيسبوك وثقافة الانغلاق»، «الشرق الأوسط» 13 يوليو/تموز 2015)، قدمت لها على أنها نوع من القبلية الجديدة، حيث يلتف حولك كل من يشبهونك فكريا وتحذف من يخالفونك الرأي.
كان الحديث في بداية ظهور وسائل الاتصال الحديثة على أنها مصدر تعددية ثقافية وانفتاح ودمقرطة للغة والحوار ومعهما المجتمعات والدول، ولكن ما نراه عكس كل هذا، حيث أصبح «فيسبوك» و«تويتر» سجن انغلاق لغوي وثقافي وبالتبعية انغلاق سياسي وزينوفوبيا.
ما أود طرحه هنا باختصار هو أن البيئة الثقافية في كل دولنا العربية، هي بيئة لا تنتج الكاتب المؤثر، فلا جامعاتنا ولا مدارسنا تنتجه، كما أن كثير ممن يكفلون الكتاب ويهتمون برعايتهم صدعهم طرق جماعات «الفالصو» على أبوابهم، فاختاروهم بدلا من هؤلاء الذين لا يستهويه الطرق. الرعاة يظنون فيمن لا يطرقون الأبواب كمجموعة من الكسالى ولا يخطر على بالهم أن للموهوب والمتميز خجلا وأنفة، وربما لهذا تميزوا. فوق كل هذا وذاك ما أدى إلى اختفاء الكاتب المؤثر هو المستهلك الذي انحدر ذوقه أو أصبح من كثرة اللهاث محتاجا كما يقول المصريون «أي حاجه في رغيف» والسلام تغنيه عن الجوع الثقافي فتصبح التويته أو البوست، هي الساندوتش الثقافي اليوم. لا مائدة ولا آداب طعام ولا يحزنون.
للكتابة المؤثرة أدب وآداب كآداب المائدة، ومع غياب البيئة المنتجة أو الحاضنة والراعية ينتفي وجود الكاتب المؤثر، وهي ليست ظاهرة عالمية كما سيردد البعض كنوع من تجنب الرد، وفتح نقاش جاد حول سؤال صاحبي: لماذا ينقرض الكاتب المؤثر؟

التعليقات