كتاب 11
رخصة السيارة.. ورخصة قيادتها
الحكومات البريطانية ليست أقل وطنية من الحكومات المصرية، الفارق أن الأولى يحاسبها برلمان منتخب (وتصبح حكومة بحصولها على أغلبية مقاعده في الانتخابات) على كل قرش تنفقه من أموال دافع الضرائب.
صورة البيروقراطية سلبية في الأذهان وإجراءاتها تعرقل الأعمال ومصالح المواطن. في بريطانيا كانت الإشارة للبيروقراطية السوفياتية رمزًا لسلبية الأنظمة الشمولية المعرقلة للأعمال بلا خيارات أو بدائل للشعب.
في بريطانيا اخترع الصحافيون تعبير «اليوروقراطية» إشارة إلى البيروقراطيين موظفي المفوضية الأوروبية في بروكسل (غير منتخبة وخارج محاسبة مجلس العموم) لسلبية صورة الاتحاد الأوروبي في الشارع السياسي.
الديمقراطية تسير على ساقين، الحرية السياسية، وحرية الاقتصاد (حرية السوق وإتاحة الفرصة للاستثمارات للنمو لخلق فرص العمل). وبينما القانون هو الطريق الذي تسير فيه الديمقراطية بساقيها، فإن البيروقراطية تصبح متاريس وعراقيل.
وليسامحني القارئ في تكرار درس من تاريخ مصر: النهضة التعليمية المعارفية الحضارية التي بدأها محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر وأثمرت في ثورة 1919 نظامًا ديمقراطيًا برلمانيًا تعدديًا استمر 32 عامًا كانت قاعدته الاجتماعية البشرية نهضة اقتصادية رفعت مستوى المعيشة وخلقت فرص عمل بتأسيس صناعات رائدة (السينما المصرية كرابع أكبر صناعة فيلم في العالم، الغزل والنسيج، السكر، والتوسع في الملاحة والسكك الحديدية) بفضل السوق الحرة المفتوحة وجذب استثمارات طمأنتها ضمانات بنك مصر وحكم القانون.
وستجد وراء التدهور الحالي كارثتين اجتماعية واقتصادية حلتا بمصر قبل 65 عامًا وتأميمات نما منها ديناصور البيروقراطية (فرخت بيضات الديناصور في البلدان العربية).
وجبة كل بيت إنجليزي في الكريسماس هي الديك الرومي، مما يفسر القول «الديوك الرومية لن تصوت للكريسماس». جهاز البيروقراطية سيستخدم أدواته ولوائحه ليقاوم بضراوة أية إصلاحات ومشاريع يراها تحديًا لامتيازات نفوذ كبار الموظفين.
لا يوجد اليوم اقتصاد يتطلع للنمو بلا حرية السوق وجذب استثمارات أجنبية بما فيها الصين بنظامها الشمولي الشيوعي.
لا يمكن تصور أن الحكومات البريطانية المتعاقبة (المحافظة أو العمالية الاشتراكية) أقل «فهلوة» وشطارة من الحكومات المصرية التي جعلت من القطاع العام ورأسمالية الدولة على مدى ستة عقود «بقرة مقدسة» في البعد الاقتصادي الاجتماعي تحت رعاية كهنوت البيروقراطية.
في بريطانيا شركات الطاقة التي توفر الإنارة والوقود للبيوت والصناعة، والمواصلات، ومحطات توليد الكهرباء، والمطارات والموانئ، وشركات بناء البوارج والطائرات الحربية ومعدات الجيش، مثالاً لا حصرًا، تمتلكها شركات تتاجر أسهمها في البورصات العالمية و88 في المائة منها شركات أجنبية لمستثمرين عرب أو إسبان أو هنود.
الحكومات البريطانية ليست أقل وطنية من الحكومات المصرية، الفارق أن الأولى يحاسبها برلمان منتخب (وتصبح حكومة بحصولها على أغلبية مقاعده في الانتخابات) على كل قرش تنفقه من أموال دافع الضرائب.
حرص حكومة ديفيد كاميرون أو توني بلير، أو جون ميجر قبلها على أموال الخزانة يدفعها إلى سياسة (يرفضها المصريون بإباء «كتحكم الأجانب في الاقتصاد») تتبع قاعدة اقتصادية بسيطة. جذب الاستثمارات من خارج البلاد (كشركة موانئ دبي العربية مثلاً أنشأت أكبر ميناء شحن في بريطانيا) لشراء مرافق – بثمن قد يبدوا بخسًا، يحمل المستثمر الأجنبي تأسيس البنية التحتية والصيانة ورعاية العاملين. في 1929 منحت حكومة لندن هنري فورد أراضي مجانية وإعفاءات ضريبية. وفي عامين حولت شركة فورد مستنقعات داغنهام بشرق لندن إلى أكبر مصنع للسيارات وأسست مدينة كاملة من شوارع وبيوت العاملين وأسرهم وعشرات الآلاف من فرص العمل. الخديو إسماعيل منح البارون امبان امتيازات وإعفاءات ضريبية فبنى أحياء مصر الجديدة بمرافقها كاملة وخلق آلاف الوظائف. وبدلا من الدولة يتحمل المستثمر الأجنبي مشاريع البنية التحتية ويوفر فرص عمل وينمي اقتصادًا يدخل المزيد من الضرائب للحكومة فتنفق على مستشفيات ومدارس وخدمات أسستها بما وفرته من الاستثمار الأجنبي. هذه المشاريع تنظمها بيروقراطية إيجابية التأثير وللأسف لا وجود لهذا النوع من البيروقراطية في مصر وبلدان عربية.
مثلا المعهد القومي لتميز العلاج الطبي (مثيله في أميركا الوكالة الفيدرالية للأغذية والدواء) لدراسة ومتابعة الجديد من الأدوية ولا ترخص بتداولها في الصيدليات أو تسمح للأطباء بوصفها إلا بعد التأكد من فائدتها العلاجية وعدم وجود أضرار جانبية. كذلك مفوضية قياس مدى تميز الرعاية التي تفتش على دور المسنين ورعاية المعوقين، ولها صلاحية التوصية بإغلاق دور تعرض النزلاء لسوء المعاملة، وهناك مصالح أو مكاتب بيروقراطية لأغراض مماثلة بالنسبة لدور الحضانة والمدارس. بيروقراطية ممولة من الخزانة العامة للتأكد من أن المؤسسات الرأسمالية التي تدير المرافق لا تضع الأرباح قبل مصالح وصحة المواطن أو المستهلك.
في مصر التي اخترعت البيروقراطية منذ فجر التاريخ توجد ألف بيروقراطية وبيروقراطية (أصبحت مهامها الأولى تغذية نفسها والإبقاء على مصالحها بعرقلة طلبات الاستثمار الجديد وتضييق الخناق على القطاع الخاص) ما عدا بيروقراطيات مهمتها حماية ورعاية الناس.
ترى ماذا لو حولت بعض أذرع إخطبوط البيروقراطية إلى مفوضيات لحماية الناس والتفتيش على الكباري والطرق وورش صيانة المواصلات والصيدليات والمستشفيات، ألن تنقذ الأرواح ويبرر مفتشوها مرتباتهم؟
أذكر عام 1980 وعدت صديقًا مصريًا فور وصوله لندن بالقدرة على شراء سيارة وتسجيلها باسمه في ساعتين. قابلته في العاشرة، طالعنا إعلانات السيارات المستعملة، اتصلنا بمعلن من تليفون المقهى (قبل زمن الموبايل والإنترنت) فجاءنا في الحادية عشرة بسيارته الروفر وأعجبت صديقي، وذهب ثلاثتنا للبنك، وسحب صديقنا المبلغ المتفق عليه ووقعت شاهد صك تسلم المبلغ وأخذ صاحبي أوراق السيارة، وسجلناها في مكتب البريد المقابل للبنك في الحادية عشرة وخمسين دقيقة.
أما استخراجه رخصة قيادة بريطانية (يحمل رخصة مصرية) فاستغرق سبعة أشهر. ملأ الاستمارة وأرسلها وحمل ساعي البريد رخصة مؤقتة بعد أسبوع (تشترط القيادة نهارًا وتعليق علامة «تحت التدريب» على سيارته) وخطابًا لموعد اختبار القيادة بعد ثلاثة أشهر. رسب في الاختبار وحدد له موعد آخر بعد أربعة أشهر قضاها في مدرسة تدريب فنجح في الاختبار الثاني.
قال متعجبًا: بيروقراطية عكس مصر؛ حيث تستخرج رخصة القيادة في ساعة واحدة (أو عشر دقائق إذا عرفت البيه الضابط) أما تسجيل السيارة فعذاب في أقلام ومكاتب المحافظة وإدارة المرور وعشرات الأختام والتوقيعات والتمغات ودفع إكراميات، أما هنا (لندن) تشتري سيارة وتسجلها في ساعتين بينما تستغرق رخصة القيادة سبعة أشهر؟
أجبته بأنها بيروقراطية تساند ديمقراطية حرية السوق. فالإسراع بتسجيل السيارة (أو أية بضائع) مهم لاستمرار دوران عجلة الاقتصاد، أما رخصة القيادة فأمر يتعلق بالسلامة الشخصية، والسلامة العامة، وهو أمر لا تتسامح فيه ديمقراطية يحكمها القانون الذي يوظف البيروقراطية الإيجابية لحماية المواطن.