أفضل المقالات في الصحف العربية
لماذا لم ينخرط الصعيد في الثورة؟
لماذا لم تحدث الثورة الصعيد في مصر وهي الدولة الكبرى من دول الربيع العربي ؟ لماذا لم تحدث ثورة في تلك المساحة الجغرافية التي تسمى بحزام الفقر في مصر والممتدة من هرم خوفو في الجيزة حتى معبد ابوسمبل جنوب اسوان؟ المتعارف عليه هو ان من يقوم بالثورات هي تلك الفئات المهمشة جغرافيا واقتصاديا وتعاني من نقص في التنمية والحياة الكريمة ومنطقة صعيد مصر كلها تعيش في عالم مقابل الحداثة حيث ترى الفلاح وليومنا هذا في غرب الاقصر يحرث أرضه بذات المحراث الذي تجره البقرات والذي تراه مرسوما كما هو على الجدران اذا ما دخلت اي مقبرة من مقابر وادي الملوك في الاقصر . لو تأملت الرسومات الفرعونية على جدران مقبرة توت غنخ امون الشهيرة لرأيت صورة المحراث ذاتها، تلك التي رايتها خارج المقبرة وكانها تلك المرسومة منذ اكثر من أربعة آلاف عام .
رغم هذا التوقف في الزمن، ترى لماذا لم ينخرط هؤلاء في الثورة؟ كما ان الثورة في ليبيا وفي تونس كانت ثورات مدن مثل بنغازي وتونس العاصمة، رغم ان الشرارة الثورية انطلقت من سيدي بوزيد جنوب تونس العاصمة ولكنها لم تتمدد جنوبا بل امتدت الى العاصمة حتى سقط نظام بن علي. ترى لماذ لم تشتعل نيران الثورة في الجنوب التونسي او لماذا لم تجرف الرياح نيران جسد الوعزيزي المحترق وتنقلها جنوبا تجاه الداخل التونسي بدلا من شمالا تجاه العاصمة ؟ لماذا لم تتحرك الاطراف في حالتي الثورة المصرية والليبية؟ اي لماذا لم تلتهب الثورة في حزام الفقر كما تقول الحكمة التقليدية او الكليشيهات التي تتبناها دراسات الحداثة وبناء الدولة في الادبيات الرئجة؟ ساعرض هنا لتفسير قد لايكون مقبولا لاول وهلة ولكن مع مزيد من التفكير قد يقتنع البعض بوجهة نظري. طبعا كما تعلمنا في منهجية العلوم السياسية لابد وان تكون هناك حالة او حالتان تدحض النظرية التي اتبناها حتى يكون للتنظير معنى . ومن حسن الحظ ان هناك الحالة السورية التي تخالف في بعض أوجهها النظرية التي أفسر بها حالات مصر وليبيا وتوس وربما اليمن؟ ويمكن مد السؤال الي ان يكون لماذا لم ينخرط البدون في احتجاجات الكويت أو البدو في اليمن وغيرها. وهنا اطرح البدون بمعني أوسع ليس بمعني بدون جنسية فقط وإنما بدون انتماء للدولة؟ مهم كما ذكرت ان تبقى هناك حالة أو حالات تكذب النظرية. ففي سوريا مثلا كان التمرد في الأطراف لا في دمشق ، في درعا وحمص وحماة الخ. وهذا يقوى نظريتي ولا يضعفها. لماذا لم ينخرط الصعيد في الثورة المصرية؟ ثورة الجياع التي يخافها الكثيرون لم تحدث، تلك الثورة التي تحذر النخب منها لانها ستأكل الأخضر واليابس ، مع انه واضح في تحذير الطبقة السياسية القاهرية من ثورة الجياع نوع من التمني وكأنهم يتمنون ان ينقذهم هؤلاء الجياع والمهمشون من قبضة الإخوان .
في مقال سابق في هذه الصحيفة قدمت تفسيرا معماريا ومن منظور تخطيط المدن لأماكن حدوث الثورات في ما أسميتها بميادين أو معمار الحرية. وفي ذلك المقال الذي عنونته " انتقام الخديوي من عبدالناصر" والذي كان ملخصة ان مصر الخديوي اسماعيل بميادينها مثل ميدان الاسماعيلية ( نسبة الي الخديوي اسماعيل والمعروف بميدان التحرير الان) وميدان القائد إبراهيم في الاسكندرية هي التي سمحت بتجمع مليوني للبشر. اما مصر عبدالناصر التي لم تعتمد فضاءات الحرية كنظام في المعمار وتخطيط المدن لم يكن فبها ميدانا واحدا يتسوعب الفيه أو حتى مئوية ( اي يمكن ان يتجمهر به مائة شخص) وكان هذا هو تخطيط مدن الصعيد وعشوائيات القاهرة. لم يتظاهر الصعايدة من وجهة النظر هذه لان مصر عبدالناصر لم تترك لهم فضاءا للتظاهر بتبنيها المعمار الشمولي في تخطيط المدن. ليبرالية الخديوي في تخطيط المدن انتقمت للملك من شمولية تخطيط عبدالناصر ونظامه وما أتى من بعده. ومع ذلك وبعد تفكير لاح في الأفق تفسير آخر وهو جوهر طرحي في هذا المقال.
من يعرف تاريخ الصعيد والذي سأحاول ان اتخذ منه نموذجا هنا لتوضيح جوهر الفكرة يدرك ان الصعيد وفي عهد الأسرة العلوية ( اي أسرة محمد علي) كان أبناءه يرفضون التجنيد وكان في بعض المناطق في قنا وسوهاج وأسوان يتم بتر أصبع الذناد أو السبابة من اليد اليمنى مع ختان الطفل حتى لا يتم تجنيده في حيش أفندينا . يعفى كن الخدمة لانه غير لائق طبيا حيث لا يستطيع ان يضغط على زناد البندقية بدون أصبع السبابة المقطوع مع ختان الطفل. كان أيضاً أهالي الصعيد يتهربون من الضرائب وكانت هناك عائلات تقتل جباة الضرائب وهذا مسجل في التاريخ المكتوب والشفوي لتلك المنطقة. النقطة هنا وباختصار وهناك عشرات الأمثلة للتدليل عليها ان الصعيد كان دائماً لايريد الانخراط في الدولة ويحاول قدر المستطاع ان يتجنب عنفها ضده ويتجنب حروبها التي تشنها ولا يرد ان يشارك فيها. والدخول في الثورة هو نوع من الانخراط في الدولة التي يحاول الصعيدي طوال حياته ان يتجنبها. ومن هنا لم يدخل في الثورة لانها ستجلب اليه الدولة الى عتبة دارة وهو الذي قضى عمرة كله محاولا الابتعاد عن خيرها وشرها لان شرها في الغالب اكثر من خيرها.
كان الصعيدي يتبع استراتيجيات مقاومة للدولة حتى في زراعته رغم انه ابن الوادي فلم يكن يزرع القطن الذي تحصله الدولة الا نادرا كما انه في أماكن قليلة يزرع محاصيل مثل القصب عندما يكون قريبا من مصانع السكر حيث يستطيع حماية محصوله ولا يمكن استغلاله. المهم ان زراعات الصعيدي لا يمن تتبعها عن طريق الضرائب أو حتى الاستحواذ عليها بالقوة .
بالطبع هناك كلام كثير يطرحه من ليسوا من أطراف العالم العربي بان تلك مناطق متخلفة ويجب ان تضم الي سيطرة الدولة. هؤلاء الناس يا سادة ليسوا متخلفين وإنما أهل حضارة فمثلا مصر كانت في القديم تحكم من طيبة ( الأقصر الان) أو من ابيدوس في سوهاج الخ. ولكن هؤلاء الناس رأوا في تركيبة الدولة الحالية وبنيتها ظلم بين لهم. ظلم لا يستطيعون تعديله لذلك قرروا طواعية تجنب الدولة ( ابعد عن الشر وغني له) فالدولة بالنسبة له شر مطلق سواء أكانت دولة ثورية أو دكتاتورية.
هناك صنف من الصعايدة قرروا الانخراط في الدولة ولكنهم لك ينخرطوا فيها من الصعيد بل ذهبوا الي صرة الحكم في القاهرة وعاشوا هناك وشاركوا في الثورة أو الثورات بهويتهم الصعيدية ولكنها ثورة ليست في الصعيد كمكان وإنما ثورة هوية صعيدية في القاهرة.
ما ينطبق على الصعايدة في تمرداتهم عبر التاريخ وتجنبهم للدولة ينطبق على الحوثيين في اليمن أو على أهالي سرت في جنوب ليبيا أو فزان أو غيرها كما ينطبق على الجنوب التونسي. كلها جماعات ترى انه من الأفضل لها ان تتجنب الدولة وتبتعد عن خيرها وشرها.
الذين يتجنبون الدولة برمتها في تاريخها الدكتاتوري أو حتى فيما يعرف بالعهود الليبرالية لا ينجذبون الي الدولة في صبغتها الثورية الجديدة. وذلك لأنهم مدركون لو انتصرت الثورة أو هزمت فالنتيجة واحدة هي حالهم قبل الثورة يشبه حالهم بعد الثورة. وما حالة قنا في صعيد مصر الا مثال ناصع فحاكم قنا أيام حسني مبارك بعد ان اصبح محافظا للإسكندرية كترقية من قبل مبارك وشارك في قمع الثورة في الاسكندرية عاد الى قنا محافظا وحاكما حتى كتابة هذه السطور. إذن بالنسبة للصعيد قبل الثورة هو ذاته بعد الثورة. لا يأتي من القاهرة للصعيد خير. وهو ما ينطبق على كل الجماعات التي عانت من الظلم التاريخي في بناء دولة ما بعد الاستعمار في العالم العربي، يريد الناس في الأطراف ان يبتعدون عن الدولة سواء قامت ثورة أو لم تقم. وللحديث بقية.