مصر الكبرى

12:45 مساءً EET

الفلول والإخوان: استمرار ثنائي الأزمة السياسية في مصر

 
أشرف راضي
بعد مرور ما يقرب من عام ونصف على الإطاحة بالرئيس حسني مبارك، يتعين على الناخبين الاختيار  في الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة التي ستجرى يومي 16 و17 يونيو، بين محمد مرسي، مرشح حزب الحرية والعدالة، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، وبين المرشح المستقل أحمد شفيق، آخر رئيس للوزراء في عهد مبارك، الذي يتهمه معارضوه بأنه مرشح المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومرشح فلول الحزب الوطني الديمقراطي الذي أطاحت به الثورة، ويرون في فوزه إعادة لنظام مبارك الذي ثاروا ضده، والذي يختصر خصومه حملة الدعاية ضده في كلمة أنه مرشح "الفلول".

لم تعد كلمة "فلول" مجرد مصطلح سياسي يطلق على كبار مسئولي النظام القديم وأعضاء الحزب الوطني الديمقراطي الذي جرى حله، أو مجرد كلمة تستخدمها هذه القوة أو تلك من القوى السياسية المتنافسة في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير، وبما يحقق أهدافها التي قد يكون من بينها إزاحة مرشح قوي ويتمتع بنفوذ كبير أو نعت معارضيهم من القوى السياسية الأخرى، وإنما اكتسبت الكلمة أيضاً مدلولاً قانونياً بصدور القانون الذي عرف إعلامياً باسم قانون عزل "الفلول".
والقانون هو تعديل على القانون رقم 73 لسنة 1956 بتنظيم مباشرة الحقوق السياسية أدخله مجلس الشعب الذي يسيطر عليه الإخوان المسلمون وحلفاؤهم في 11 أبريل. وأوقف القانون، في صيغته النهائية، مباشرة الحقوق السياسية لمدة عشر سنوات لكل من عمل خلال السنوات العشر السابقة على 11 فبراير 2011 رئيسا للجمهورية أو نائباً لرئيس الجمهورية أو رئيسا للوزراء أو رئيسا للحزب الوطني الديمقراطي المنحل أو أمينا عاما له أو بمكتبه السياسي أو أمانته العامة.
وأصدر مجلس الشعب هذا القانون فور إعلان عمر سليمان، مدير المخابرات السابق والذي عينه مبارك نائباً لرئيس الجمهورية، الترشح في انتخابات الرئاسة. وتعرض القانون لانتقادات كثيرة على أساس أنه يستهدف أشخاصاً بذاتهم وبهدف إبعادهم عن المنافسة على منصب الرئيس لصالح آخرين، وهناك احتمالات قوية لأن تقضي المحكمة الدستورية بعدم دستوريته، رغم ضغوط الإخوان والقوى السياسية. ويرى منتقدو القانون أن إصداره يمثل عودة لآلية وضع قوانين وتشريعات حسب الطلب والتي دأب عليها النظام السابق وحزبه الحاكم. والأصوات التي عارضت فكرة العزل السياسي من حيث المبدأ قليلة للغاية.
ومع هذا لم يكن أمام المجلس العسكري بديلاً، بموجب الإعلان الدستوري، سوى التصديق على القانون بعد أن أعادته المحكمة الدستورية العليا ورفضت البت في دستوريته قبل صدوره رسمياً، على أساس أنها ليس من اختصاصها الرقابة السابقة على القوانين، وصدق المشير حسين طنطاوي، رئيس المجلس على القانون كمرسوم بقانون رقم 17 لسنة 2012، ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 23 أبريل 2012. واستبعدت اللجنة العليا للانتخابات بالفعل ترشيح شفيق، لكنها قبلت الطعن الذي قدمه وأعادته كمرشح، وأحيل قانون العزل إلى المحكمة الدستورية للبت في دستوريته.  
ولن تغير هذه المسألة القانونية شيئا من الواقع السياسي والاجتماعي الذي جرت في ظله انتخابات الرئاسة ولا  في دلالات نتائج الجولة الأولى التي تشير إلى رفض حوالي 50 في المائة من الناخبين كلا من الإخوان المسلمين ورموز النظام السابق. اختارت هذه الكتلة من الناخبين التصويت إما للمرشح الناصري حمدين صباحي أو للمرشح الإسلامي عبد المنعم أبو الفتوح الذي انشق على جماعة الإخوان بإعلانه ترشيح نفسه للرئاسة مخالفاً قرار الجماعة عدم خوض انتخابات الرئاسة في ذلك الوقت وأخيراً عمرو موسى المرشح المستقل، الذي جاءت النتائج التي حققها دون التوقعات.
هذه الكتلة تتطلع لبديل ثالث لكل من الإخوان المسلمين وحزب الدولة، وهو بديل يتعذر تحققه طالما استمرت حالة الاستقطاب بين ثنائية الإخوان و"الفلول" والتي تعد أحد مظاهر الأزمة التي يعاني منها النظام السياسي المصري، وقد تستمر هذه الأزمة لفترة طويلة وتعرقل عملية الانتقال نحو نظام سياسي كفؤ، ما لم تتبلور قوى سياسية جديدة وما لم تنظم القوى الجديدة نفسها عبر تنظيمات سياسية تمكنها من التنافس على مصادر السلطة السياسية والنفوذ في المجتمع. هذه الكتلة وضعت أصواتها وراء أحد المرشحين الثلاثة خارج دائرة الاستقطاب دون أن تنشغل كثيراً بمسألة من منهم يصلح كممثل سياسي لها، وربما يرجع السبب الرئيسي في هذا إلى عدم تجانس هذه الكتلة سياسياً واجتماعياً.
من الجدير تأمل الكتلة التي صوتت لصباحي والتي تقل قليلاً عن خمسة ملايين صوت، فهذه الكتلة تضم قطاعاً متنوعاً من المعادين للإسلاميين أو المتخوفين منهم، بما في ذلك شريحة صغيرة من الصوت القبطي الليبرالي. وهؤلاء مساندون للثورة ولا يرغبون في التصويت لموسى أو شفيق. وتضم هذه الكتلة أيضاً قطاعاً من المصريين العاديين، لاسيما المهنيون وأبناء المناطق الحضرية الفقيرة، الذين أخذوا وعود العدالة الاجتماعية ومحاربة الفقر من صباحي على محمل الجد.
هذه الكتلة أمنت لحمدين الموقع الثالث وبفارق كبير عن أبو الفتوح الذي حصل على أصوات التيارات الإسلامية الناقمة على جماعة الإخوان أو المنافسة لها. وسلوك التصويت في هذه الكتلة يصعب التنبؤ باتجاهاته في الجولة الثانية، باستثناء كتلة الناخبين الإسلاميين التي أيدت أبو الفتوح في الجولة والتي انحاز معظمها، إن لم يكن كلها  لمرشح الإخوان.
ولم يغير الصعود السريع لحمدين وكسبه هذا العدد الكبير من الأصوات، ولا حصول المرشحين الثلاثة معاً على 50 في المائة من الأصوات تقريباً من واقع الاستقطاب الشديد في الصراع على السلطة في مصر بعد مبارك، وهو الاستقطاب الذي تجسده ثنائية الإخوان و"الفلول".
وهذه الاستقطاب ليس بالضرورة استقطاباً طابعه الصراع، فكثيراً ما كانت العلاقة بين الإخوان والفلول، أو بالأحرى بينهم وبين النظام القديم ومنذ عهد الرئيس أنور السادات في السبعينات، علاقة تعاون وتنسيق في مواجهة خصوم مشتركين من القوى السياسية المصرية أو خصوم في الخارج. ولم يكن الإخوان المسلمون ولا حزبهم السياسي معارضين للفلول على طول الخط، خصوصا في الفترة الأولى بعد الإطاحة بمبارك.
فالإخوان وفلول النظام القديم والمجلس العسكري كانوا من مؤيدي التصويت بنعم على التعديلات التي اقترح المجلس العسكري إدخالها على دستور عام 1971 في الاستفتاء الذي أجري في مارس 2011. والتزموا الصمت عندما استبدل المجلس العسكري الدستور بإعلان الدستوري صدر في 30 مارس 2011. ووافق الإخوان على منافسة فلول الحزب الوطني في انتخابات مجلسي الشعب والشورى، ولم يطالبوا بتطبيق قانون إفساد الحياة السياسية الذي أصدره المجلس العسكري في 21 نوفمبر 2011 على مرشحين في انتخابات مجلس الشعب.
وهناك عدد من المؤشرات على أنه كان يجري تأهيل حزب الحرية والعدالة ليحل محل الحزب الوطني الديمقراطي وما سبقه من تنظيمات سياسية للدولة منذ 1951. ورغم استعداد الحزب من حيث توجهه للاضطلاع بهذا الدور، إلا أن الطابع المغلق لجماعة الإخوان المسلمين المهيمنة على حزب لم تسمح بانفتاحه لاستيعاب قوى اجتماعية متحالفة مع النظام القديم بدرجة كبيرة مما دفع هذه القوى للوقوف وراء شفيق، علاوة على قوى شعبية صوتت لحزب الحرية والعدالة في انتخابات مجلس الشعب تحولت عنه بسبب الأخطاء التي ارتكبها الحزب وأعضاؤه بعد الانتخابات إذ أنه لم يترك عيباً من عيوب النظام السابق وحزبه الحاكم إلا وكرروه، علاوة على دخولهم في صدام مع المجلس العسكري بسبب سعيهم للانفراد بالسلطة.
وحصل مرسي وشفيق اللذان سيخوضان الجولة الثانية للانتخابات على أقل من 50 في المائة من الأصوات الصحيحة للناخبين الذين أدلوا بأصواتهم، وبفارق 260 ألف صوت تقريباً. وإذا أخذنا نسبة الإقبال على التصويت في الانتخابات الرئاسة في الاعتبار التي شهدت تراجعاً ملموساً مقارنة بانتخابات مجلس الشعب، إذ تراجعت إلى 46 بالمائة في الرئاسية من 58 بالمائة، حسبما تشير البيانات الرسمية، يتبين أن أكثر من 50 في المائة من جمهور الناخبين عازف عن المشاركة.
وبهذا نكون أمام استقطاب مركب أو متعدد المستويات. الأول هو استقطاب بين قوى الثورة من ناحية، وبين قطبي النظام القديم، "الفلول" والإخوان، من ناحية ثانية. والثاني، هو الاستقطاب بين الإخوان و"الفلول"، هذا بخلاف الاستقطاب المدني العسكري والاستقطاب المدني (العلماني) والديني. وفي وضع كهذا تتفاعل تناقضات النظام السياسي بطريقة ديناميكية، ويصعب تمييز التناقض الرئيسي عن التناقضات الثانوية نظراً لعدم استقرار العلاقات بين القوى الاجتماعية والسياسية المتنافسة على السلطة.  
ورغم ما بذله مرسي في بداية حملته، قبل الجولة الأولى من جهود للوصول إلى عموم المصريين، وفهم مطالب التنمية المحلية في كل محافظة زارها واستيعابها والاستجابة لها، إلا أن هذا لم ينعكس في توزيع الأصوات التي حصل عليها مرسي من المحافظات المختلفة. قد يكون السبب في ذلك تصاعد الخطاب الديني لحملة مرسي لاحقاً لحاجة الإخوان الملحة لأكبر قطاع ممكن من أصوات السلفيين، وغياب اللغة السياسية افتقارها إلى محتوى يميزها عن اللغة السياسية للنظام السابق. وعدم تمايز البرنامج السياسي والاجتماعي والاقتصادي للإخوان دفع قطاعات لا بأس بها من ناخبيهم في مجلس الشعب للتصويت لشفيق أو لصباحي.        
ورغم تصوير شفيق على أنه مرشح الفلول وأنه يمثل النظام الذي ثار ضده المصريون، إلا أن القوى الانتخابية التي حشدت خلفه متعددة ومتنوعة ولا تنتمي كلها بالضرورة للنظام السابق، ولا يساعد إغفال أن هذه القوى هي في الأساس قوى اجتماعية حليفة تمتلك أدوات حيوية لتأمين الحشد وراء مرشحها في فهم النتيجة التي حققها شفيق في الجولة الأولى، أو التي يمكن أن يحققها في الجولة الثانية.
وتركيز الإخوان وقوى الثورة في دعايتهم ضد شفيق، على أنه تكرار لنظام مبارك ويستند إلى الفلول أو أنه مرشح المجلس العسكري، لن يؤثر كثيراً في تغيير القواعد الاجتماعية. وبدأ الإخوان يتنبهون لهذه القواعد، بعد الجولة الأولى، بسعيهم سريعاً للتفاوض مع قيادات محلية في المحافظات التي فاز فيها شفيق – أو من يصفونهم "بالفلول" – أي بالتواصل من جديد مع الفلول، لكن هذه المحاولة جاءت متأخرة، كما أن عدم التزام الإخوان وحزبهم بوعودهم لحلفائهم من القوى السياسية قلص مصداقيتهم في إبرام مثل هذه الصفقات.  
وبعيدا عن مسألة توفر أموال هائلة لشفيق على أساس أن توافر المال وبغزارة كان القاسم المشترك بين المرشحين الخمسة البارزين في انتخابات الرئاسة وكان له دور حاسم في بروزهم، إلا أنه ينبغي النظر إلى هذا المال في سياق العلاقات الاجتماعية. فالمال المتوفر لشفيق مصدره قطاع ملموس من أكبر رجال الأعمال اصطف خلفه. المسألة هنا ليست مسألة استفادة أو عدم استفادة رجال الأعمال من النظام السابق، وإنما المسألة تعبر عن قوى اجتماعية لها مصالح اقتصادية واجتماعية يسعون للحفاظ عليها. وهؤلاء لديهم تحالفات اجتماعية أوسع ودوائر من المستفيدين الذين يشكلون قطاعات واسعة في الأرياف أو في المدن الكبرى.
ليست المسألة مسألة شراء أصوات مثلما يروج خصوم شفيق، فالإخوان لعبوا في حملاتهم الانتخابية، سواء في التعديلات الدستورية أو في انتخابات مجلسي الشعب والشورى وكذلك في انتخابات الرئاسة على احتياجات الفقراء في الريف والمدن واستغلال الارتفاع مواز في معدلات البطالة، للتأثير على الناخبين، إنما المهم هو كسب تأييد الشبكات الاجتماعية والمحلية ومعظمها مرتبط ومنذ الخمسينات وربما قبل ذلك بحزب الحكومة أو الحزب الحاكم أيا كان اسمه. يضاف إلى ذلك الشرائح متعددة من المجتمع المصري التي أرهقت أمنياً واقتصاديا، لطول أمد الفترة الانتقالية،ً وشعورها بعدم الاستقرار، والرغبة في بروز رجل دولة قوي يمكن أن يعيد للبلاد توازنها في أقصر فترة ممكنة.
ويعتقد أن القوى التي استطاع شفيق كسب تأييدها في الجولة الأولى من الانتخابات كانت قوى محسوبة لعمرو موسى، الذي استهدف ذات القطاعات والأدوات الانتخابية التي استهدفها شفيق، لكنه لم ينجح  في إقناع أدوات النظام السابق، المالية والإدارية والاجتماعية، بمصداقية انتمائه لها ومصداقية وعوده بالحفاظ على مصالحها، بينما نجح شفيق في ذلك. ووضعت جماعات المصالح الكبرى ثقتها في شفيق وليس في موسى. ولعب صنع صورة لشفيق، كرجل دولة حازم وكفؤ دوراً كبيراً في طرحه كمرشح يمكن الرهان على فوزه.
ربما رجح هذا كفته على كفة موسى في أوساط المسيحيين في الجولة الأولى إلا أن أصوات الأقباط توزعت بينه وبين صباحي وذهب بعضها إلى موسى في الجولة الأولى. من المؤكد أن الجزء الأكبر من صوت هذه الكتلة لن يذهب في الجولة الثانية لمرشح حزب الحرية والعدالة وجماعة الإخوان وإنما ستذهب لشفيق، وليس في الأمر ما يدعو للاستغراب أو توجيه الاتهامات أو اللوم.
ففي الانتخابات، تلعب القوى الاجتماعية والاقتصادية صاحبة المصالح الدور الأكبر في حسم النتيجة. وليس للأيديولوجية دور في حسم النتيجة إلا في لحظات استثنائية وخاصة لأمة مأزومة تتطلع للخلاص أو للانتحار. وهذه القوى صاحبة مصالح راسخة في المجتمع وهذه المصالح قد لا تتعارض بالضرورة مع مطالب الثوار أو تطلعاتهم لكنها بالتأكيد تختلف سواء في المنهج أو البرنامج. هذه القوى الآن منقسمة بين قوى تدافع عن مراكزها في نظام قديم وأخرى تسعى للانقضاض على هذه المراكز أو خلق مراكز موازية لكنها لا تسعى لإدخال تغيير جذري على قواعد اللعبة السياسية واصطفاف القوى.
الحقيقة المرة، أنه عندما أصبح المصريون في لحظة الاختيار الصادقة اكتشفوا، وبعد عام ونصف قدموا فيه الكثير من العرق والدم، أن الاختيار لا يزال محصوراً بين الإخوان والفلول. ويسعى بعض ممن لا يروق له هذا الاختيار إلى قلب الطاولة على رؤوس الجميع لكن قدرتهم على تحقيق ذلك محدودة وكذلك ستكون قدرتهم في مواجهة من سيفوز في الجولة الثانية إلا إذا واصلوا كفاحهم وتكاتفوا دفاعاً عما تحقق من مكاسب، والسعي لتطويرها، ومواصلة النضال من أجل تحقيق أهداف الثورة وفي مقدمتها إقامة نظام مدني ديمقراطي.
 

التعليقات