أفضل المقالات في الصحف العربية
«عناق الهلال والصليب» والثقافات الفاشلة
مقال كتبه الدكتور فندي قبل الثورة وبعد حادثة القديسين ونجع حمادي
ليس ما حدث فى نجع حمادى يوم عيد الميلاد هو المخيف، ولا حديث الجزيرة والدكتور سليم العوا، ولا حديث الأنبا بشوى، ولكن المفزع هو ما يدور من أحاديث من تافه القول فى مصر بعد كل هذه الحوادث، أحاديث تطييب الخواطر وترديد الكليشيهات الجاهزة فى التعرض لمسألة بالغة الحساسية كالعلاقة بين المسلمين والأقباط. هذه القضايا تحتاج إلى عقول نابهة ومتخصصة للاقتراب من هذه الحساسية. بداية، يجب ألا «نلعب سياسة» فى موضوع الأقباط والمسلمين، لأن وحدة الوطن قائمة عليه.
لعب السياسة وبجهل فى أمر خطير كهذا يضع مستقبل البلد برمته على المحك. ولكن ترى ما الذى يمكن أن أقوله كى يكون جديدا أو مختلفا هنا فى هذه السطور المحدودة. ألخص فكرتى فى ملاحظتين، وأعرف أن ما سأقوله لن يغير من الأمر كثيرا، لأن الدولة نفسها نصبت للكتابة أيضا «فتواتها» الذين يفرضون كلامهم بقوة الدعم لا بقوة الحجة والمنطق، فالمبارزات الفكرية ليست سمة عصرنا، الصوت الأقوى فى مصر هو لمن يكون كفيله أقوى، ولمن أعطاه صاحب المحطة برنامجا تليفزيونيا.
المسألة فى مصر لم تعد مسألة أفكار، المسألة أصبحت بـ«الدراع»، من استلاب الأراضى إلى استلاب الأفكار، فالكلام ذاته الذى أكتبه هنا قد يسرقه شخص آخر ويكرره فى برنامجه فيصبح كلاما مهما، لأنه يصبح وقتها كلاما مفروضا بقوة المعلم لا بقوة العلم.
بداية، أنا ضد الكليشيهات والمسكنات اللفظية التى تعقد المسألة أكثر من أن تحلها، وأولى العبارات الفارغة التى أود أن أصدم بها القارئ هى حكاية «تعانق الهلال والصليب»، أو مقولة «الأمة طائر بجناحين أحدهما إسلامى والآخر مسيحى».
هذا كلام يجب أن يتوقف. ولى فى ذلك سبب واحد، وهو أنه فى تكرار مقولة (تعانق الهلال والصليب) إصرار على تديين الوطن، مع أن أساس الشراكة فى الوطن فى أى بلد هو المواطنة بمعناها القانونى (citizenship)، أى المساواة أمام القانون، وبذا يصبح موضوع الخصوصية الدينية أمرا خاصا بالفرد أو الجماعة، ونحن نسعى إلى أن تكون مصر دولة مدنية أساسها المواطنة، لا دولة دينية أساسها الدين. وترديد هذه الكليشيهات هو سمة من سمات الثقافات الفاشلة.
مقولة (تعانق الهلال والصليب) تصب فى الدولة الدينية، تديين الدولة وتديين المجتمع، وهذه وصفة للفتنة لا وصفة للحل. والأمة التى تشبه طائراً بجناحين، أحدهما إسلامى والآخر مسيحى، تصب فى فكرة الدولة الدينية نفسها على غرار إيران الخومينى. أعرف أن هذا ليس رأيا مألوفا، ولكن فى تكرار هذه الكليشيهات الفارغة تأجيجاً للفتنة لا محاولة لدرئها. ومن هنا يكون علاج الجرح الطائفى قبل أن يصبح دمامل وبثوراً على وجه الوطن، ليس بيد شيخ الأزهر، ولا بيد بابا الأقباط، الحل بيد الدولة حلا مدنيا لا حلا دينيا.
والحل يبدأ من إدراك حقيقة أولية، وهى أنه ليست هناك علاقة واحدة بين المسلمين والأقباط فى كل الوطن. فقد تجد أن العلاقة بين المسلمين والأقباط متوترة فى منطقة ما من مصر، بينما تكون متناغمة فى القرى والنجوع حتى لا تمييز فيها بين المسيحى والمسلم، وهناك علاقة بخصوصية ما بين الأقباط والمسلمين فى الدلتا والإسكندرية أو القاهرة.. كلها علاقات مختلفة، محاولة محو الفوارق بين هذه العلاقات ورسمها على أنها واحدة فى كل مصر، هو جهل بأولى حقائق المجتمع.
فأقباط الصعيد غير أقباط الإسكندرية، ومسلمو الصعيد أيضا غير مسلمى القاهرة، فحجاب السيدة القاهرية المزركش مثلا لا يستحبه الكثيرون فى قرى الصعيد، والمرأة المسيحية فى الصعيد تلبس الملاية ذاتها التى تلبسها المسلمة. إذن، حكاية أن هناك كتلة قبطية تأتمر وتنتهى بأمر الأنبا بيشوى حكاية «مش دقيقة»، والشىء ذاته بالنسبة للمسلمين، فكثير من المسلمين فى مصر لم يعودوا يرون مؤسسات الإسلام الرسمية فى البلاد، من الأزهر ودار الفتوى إلى آخره، على أنها مرجعيتهم وتمثلهم، لأن الكثير منهم عاد من السفر للقمة العيش بإسلام آخر غير الإسلام المصرى، كالإسلام الباكستانى للقادمين من سفرهم لأوروبا، والإسلام الخليجى لمن عملوا فى الخليج، فليس هناك إسلام واحد فى مصر أيضا، هناك إسلامات، البعض منها متسامح والآخر متشدد. فلا المسلمون فى مصر كتلة واحدة صماء ولا الأقباط أيضا.
تديين المجتمع وصراع الأقباط والمسلمين هما الخلطة السحرية التى يستطيع أن ينفذ من خلالها كل من أراد أن يمس مصر بسوء. ولا بد أن تكون لدينا الجرأة أن نقول بأن حل القضية ليس فى يد البابا أو شيخ الأهر أو حتى المجتمع المدنى.. الحل يجب أن يكون حلا مدنيا يأتى من الدولة، ومن رأسها. الحل يأتى من الرئيس فقط لا غير.