مصر الكبرى
«عديلة»
كلما خرجت من البيت كانت أمى تقول لى «عديلة»، تقولها بينما رجلى اليمنى خارج البيت واليسرى مازالت بداخله. تقولها همساً، وماتت أمى، وسمعتها بالأمس من أختى، همستها، وأنا أركب السيارة فى طريقى إلى المطار، قالت وفى وجهها خجل، وكأنها سرقت الكلمة سرقة، قالت «عديلة».
«عديلة» ليس اسم امرأة، بل تحية جنوبية خاصة وساحرة تحتوى على الكثير من المعانى فى كلمة واحدة، كلمة يقولها أهلنا فى الصعيد لحظة الخروج إلى السفر، وإلى السوق، وإلى العمل، ليست كلمة وداع، رغم ما فيها من ذلك، فهى أشمل بكثير من «مع السلامة»، أو «طريق السلامة»، أو «صحبتك السلامة». فى كلمة «عديلة» شىء من هذا وأكثر، فهى تعنى أن يعدل الله لك الطريق، ويجعله محفوفاً بالحظ والرزق، يجعل طريقك «معدولاً، لا معوجاً»، ففيها من معانى الاستقامة أيضاً..
فيها أيضاً من «يبعد عنك أولاد الحرام» لأنك لن تسير فى الطرقات المعوجة أو الحوارى الضيقة التى بها كثير من المخاطر.. فيها أيضاً من التقوى والصلاح، فالطريق المعتدل فيه من الصراط المستقيم. «عديلة» أيضاً توحى بالاعتدال فى الجو، لا قيظ صيف ولا برودة شتاء، فيها أشياء الحميمية والدفء، وعطف وحنية الملابس على الجسد.
كلمة واحدة، لا عبارة ولا جملة كاملة ولكن بها معان عميقة، فيها دعاء، وفيها أمنيات، وفيها حنية ورقة وحنان. «عديلة». كلمة واحدة لا أكثر ولا أقل. أحب أنا الكلمة الواحدة، فعندما يختصر الغربيون عبارة «Goodbye» إلى كلمة «Bye» – باى – كنت أسمعها وتدخل أذنى فى المطارات بحروفها العربية، فأسمع كلمة «عديلة».
سرحت بعقلى فى وحدة السيارة فى طريقى إلى المطار، وتخيلت كلمة «عديلة» مكتوبة على مطاراتنا وطرقاتنا، فهى أجمل اختصار لعبارات طويلة مثل «رافقتكم السلامة». فى «عديلة» هذا المعنى موجود ولكن التركيز فيها ليس على السلامة فقط، وإنما كل التركيز على معانى الرفق، أى أن يترفق بك الطريق. وما أعذب كلمة «عديلة» عندما تسمعها فى أغانى أهلنا فى النوبة، فى أغنيتهم التراثية «عديلة» ووه بلدى فجمرى»، التى تعنى «أيها المسافر إلى بلاد بعيدة لا تنسنا»، ففى «عديلة» أيضاً معنى أن نسافر ونحمل الأهل فى قلوبنا، ليس فقط لأنها رغبة منا بل لأنها أمانة حملونا إياها.بالطبع جماعتنا من مسؤولين وغيرهم لا يتوقفون كثيراً عند كلمة تنبثق من تراثنا كما يخضر النخيل على شاطئ النهر، لأنهم مغرمون بكل ما هو غريب. أمر مخز، فها أنذا أنظر من غرفتى فى فندق النيل هيلتون، باتجاه النيل، فلا أرى كلمة واحدة عربية، لا أسماء المطاعم العائمة، ولا علامة واحدة مضيئة مكتوبة باللغة العربية! شىء مخجل أن تبحث عن نفسك وعن تجارتك وبضاعتك فى تراث غيرك. فالذى يكتب أسماء المطاعم والفنادق بالإنجليزية لا يتذوق معنى كلمة «عديلة». ومع ذلك وفى بداية العام لا أملك لهم إلا الدعاء، وأقول لهم «عديلة».
ربما لا يروق لمحافظ الأقصر أن يكتب «عديلة» لوداع المسافرين فى المطار، كيف والماكينة التى تخرج لك تذكرة دخول المطار بها صوت يتحدث إليك بالإنجليزية فقط، رغم أن كل السائقين فى المنطقة من أهالى البلاد، صوت يقول لك «Please Take a Ticket»؟! ولا كلمة بالعربية. «عديلة» قد تبهر الألمان والإنجليز والسويديين والأمريكان، ولكنها لا تبهر جماعتنا ممن يتولون مقاليد الأمور من أهل الشمال، لأنها كلمة فلاحى. لا أدرى إن كان أهل الشمال يقولون كلمة «عديلة»، ولكنها كلمة تحية ووداع تمتد من جنوب مصر إلى أواسط السودان، أى أنها كلمة متجذرة فى حضارة الجنوب.
ركبت الطائرة من الأقصر إلى القاهرة، وجلست فى الكرسى الأمامى، وقبل الإقلاع جلست أمام ناظرى مضيفتان، كانت إحداهما تسمى «دعاء»، واستبشرت باسمها خيراً، وكانت الأخرى تدعى «بسنت»، جلستا فى ملابس مصر للطيران، وفى لحظة الإقلاع كانت كلتاهما تمدان الأصبع «السبابة» إلى الأمام وكأنهما تقرآن التشهد فى ختام الصلاة، أو هكذا خُيل إلىّ من خوف الإقلاع.
أغمضت عينى، وحاولت أن أتذكر لحظات هادئة، أتذكر رحلتى النيلية الهادئة من أسوان إلى الأقصر، وأتذكر الوجوه لحظة السفر، وتذكرت وجه «محمد» ذلك الشاب النوبى، الذى ودعنى بعد أن وضع حقيبتى فى تفتيش البوابة الإلكترونية، ومد يده التى تشبه خشب الأبنوس، وقال بصوت عال فاجأ الجميع: «عديلة يا دكتور». كان وداعاً جميلاً فيه رائحة أمى وأختى، ورائحة البلاد البكر، ورائحة البكارة.
ودّعت 2009، بخيرها وشرها، رافعاً يدى أمام النهر قائلاً: «عديلة».