مصر الكبرى

01:27 مساءً EET

البرجماتية المظلومة

المنهج البرجماتي* ظُلِم كثيرا وعانى من سوء فهم العامة له، فهم يقعون غالبا فريسة سهلة تلتهمها شعارات الراديكالية الحنجورية عن المثالية والاوهام الماورائية. مثلا، شعارات اليسار والاشتراكية عن العدالة الاجتماعية ماهي إلا تغليف فاخر مزركش لتسويق مبدأ "المساواة في الظلم عدل". اتذكر وقت أن كرهت تلك المقولة في طفولتي بسبب استخدام المدرسين لها وقت تطبيق العقاب الجماعي على الفصل، وقد كنت في سنواتي الخضراء تلميذة مثالية في الطاعة والهدوء والالتزام. كم كنت اشعر بمرارة الظلم اثناء تطبيق العقاب الجماعي! وكم كنت اشعر بالهوان وأنا ارى اللامبالاة في عيون التلاميذ الذين تسببوا في وقوع هذا العقاب. أما الاساتذة الافاضل فقد كانوا في حالة اقتناع تام ان تلك هي العدالة. عدالة؟ أية عدالة تلك؟ اشكرهم على أية حال، لأنهم علموني درسا استفدت منه كثيرا في سنوات التمرد التي تلت ذلك. فقد قاموا بتحطيم صنم العدالة المثالية في عيني الصغيرة التي كانت تجتهد لفهم الدنيا وقوانينها.ولنترك الاشتراكية وعدالتها في تعميم الفقر على الجميع وننتقل إلى نموذج آخر من النصب والمتاجرة بالشعارات -ولكنها شعارات ذات قداسة سماوية هذه المرة، مما يُصَعِب جدا فكرة نقدها أو التمرد ضدها- وهو نموذج الاسلام السياسي. العدالة في دولة الخلافة الاسلامية هي أن تسود معقتدات المسلم السني الذكر الريفي على المجتمع، وان تصوغ تلك المعتقدات توجهات الدولة وتحدد قوانينها تحت قيادة وإلهام الخليفة الذي لا يجوز الخروج عليه لأنه يُغَلِف معتقده الاصولي الذكري الريفي بكونه الارادة الالهية في تطبيق الشريعة. وحيث أن الخالق وهو العدل لا يحكمنا على الارض، فلابد أن نرضخ لارادة هذا المخلوق وأن نرضى بظلمه باعتباره عدلا.لماذا تتغلب الراديكالية (تغليب الدوجما وتحكيم المثالية الزائفة الظالمة) على البراجماتية (تغليب المصلحة وتحكيم المنطق والاسلوب العِلمي) في المجتمعات المتخلفة؟ ببساطة لأن الشعوب فيها لم تمر بمراحل التطور اللازم لاعتماد ادوات المنطق والعِلم في اتخاذ القرار، فهي شعوب عاطفية مندفعة، تندفع في شكل القطيع خلف حزمة الشعارات التي يسيل لها اللُعاب، وكلما علت نبرة الشعارات كلما ارتبط ذلك وجدانيا بصدقها لأنها لا تخضع لعملية تحليل عقلانية من أي نوع. وقد ادركت القوى العظمى ذلك. فحين يأست امريكا من امكانية اصلاح المجتمعات العربية لجأت لبراجماتية تتناسب مع حضارتها الضحلة، وهي تفجير تلك المجتمعات بالجهود الذاتية واستغلال الفوضى لتحقيق مصالحها الآنية كما هي عادتهم. لا ألوم امريكا على ذلك لأني أفهم برجماتية القرار في تحقيق المصلحة، ومن الطبيعي أن مصلحة طرف قد تتعارض مع مصالح أطراف أخرى. مسؤوليتي هي أن أعمل على حماية نفسي وتحقيقي مصالحي أيضا. لكن، وياللأسف، بالنظر إلى ما آلت إليه احوالنا نرى أن الراديكالية والمثالية الزائفة قد أدت بنا للتضحية بمصالحنا.في لحظة الاختيار انضمت المعسكرات الراديكالية من يساري واشتراكي واسلامي إلى جبهة محاربة الدولة في شكل جهاز الشرطة ثم في شكل النظام ثم في شكل المجلس العسكري ثم في شكل "الفلول" (كل من لا يؤيد الاتجاه الراديكالي ويسعى للحفاظ على ما تبقى من الدولة ومؤسساتها مع اصلاحها بشكل كامل وجذري)، وحين نجح هؤلاء في فرض اختيارهم "الثوري"، امتد الامر لسائر المؤسسات وعلى رأسها القضاء ثم تم الاجهاز على الدستور لنسف الدولة بشكل كامل.نعم لقد انتصرت الراديكالية على البرجماتية.. ومن الطرائف المبكية التي تجدر الاشارة إليها هي موقف القطيع الشعبوي الراديكالي العلماني في الاتجاه نحو البرجماتية لعصر الليمون واختيار الراديكالية الاصولية الدينية كبديل انتقامي من "النظام السابق" في سعيه لمحاربة البرجماتية بالبرجماتية. وقد نجح بعض محترفي الحنجورية الاشتراكية في تسويق هذا الاتجاه لقطاع مؤثر في ظل حالة الانقسام التي شهدتها وتشهدها مصر لحسم صراع لاعقلاني وتغليب اتجاه اصولي-فاشي بآليات الديمقراطية الحديثة بعد تفريغها من مضمونها، وهو ايضا نموذج لما يسميه الاسلاميين ب"محاربة الديمقراطية بالديمقراطية".برجماتية من انتخبوا المرشح المنافس للتيار الراديكالي ستظل تطاردهم في شكل وصمة "الفلول" لأن التاريخ المزور يكتبه المنتصر، ولكنهم في ذلك يتميزون عمن اعتمدوا المثالية في المقاطعة أو الابطال، وعمن عصروا الليمون للاتيان بتنظيم دولي في الحكم. الراديكالية هي حالة من الهيستيريا الشعبوية، ولا يمكن التعامل معها بالمنطق والحوار العقلاني، فالثورة هي حقا بلا رأس، أي بلا عقل. ومن يقف ضد الراديكالية الشمولية سيتم وضعه في خانة اعداء الثورة أو الثورة المضادة. تلك هي طبيعة المشهد بلا ادوات تجميل. من يركب ارجوحة المثالية في الهواء ممن لا ينتمون للقوى الراديكالية من يساري واسلامي سيصل للحظة الارتطام بأرض الواقع إن آجلا أو عاجلا، وعليه أن يدرك أن "ثورتهم" قد ارتدت الزي الاسلامي ولن تخلعه. فإما أن يتدروش ويرضى بمكان في طابور المجاذيب المخلصين للراديكالية وعشقها السادي، أو يعترف بالواقع ويخلع عِمة الوهم كخطوة أولى لتعلم البرجماتية واعادة بناء الدولة.*تعتمد الكاتبة على تعريف ويليام جيمس للبرجماتية "إنها تعني الهواء الطلق وإمكانيات الطبيعة المتاحة، ضد الموثوقية التعسفية واليقينية الجازمة والاصطناعية وادعاء النهائية في الحقيقة بإغلاق باب البحث والاجتهاد. وهي في نفس الوقت لا تدعي أو تناحر أو تمثل أو تنوب عن أية نتائج خاصة، إنها مجرد طريقة فحسب، مجرد منهج فقط […] فالفكرة صادقة عندما تكون مفيدة. ومعنى ذلك أن النفع والضرر هما اللذان يحددان الأخذ بفكرة ما أو رفضها."

التعليقات