مصر الكبرى

10:18 صباحًا EET

«عشة»

لماذا لا نستطيع أن نشم رائحة العطن الثقافي والاجتماعي والسياسي في بلداننا؟ نقرأ الكثير ونعرف انه معطوب، أو إنتاج معاد لنفايات سابقة، ومع ذلك لا نشم رائحته، ظني ان فقدان حاسة الشم هذه يحتاج الى تفسير، ووجدت في «العشة» المفهوم الجامع المانع لتفسير هذه الظاهرة، أعرف أنني كتبت عن «الجردل» في مقال سابق، وقد يهاجم البعض تلك الرؤية التي تفسر الأمور الكبيرة من أشياء تبدو صغيرة بادعاء الترفع الذي هو في حقيقته هروب. العشة كمفهوم منحتني فرصة للحديث عن كل ما حدث ويحدث حولنا من قبولنا للفساد السياسي، والاعلامي، والخراب التعليمي، وفيها ايضا تفسير لردود الفعل على اعدام صدام حسين، ومستقبل العراق، وحتى مآل الحركات الاسلامية. فما هي العشة أولاً؟ ولماذا هي بهذه الأهمية والقدرة التفسيرية؟أولا العشة معمار ورؤية للذات وللكون، اساسية لفهم الانقلاب القيمي في مجتمعاتنا، ورؤية ما هو سيئ على أنه حسن، وما هو أعلى على أنه الأدنى.في العمران والبناء هناك معمار أفقي وآخر رأسي، ولكل معاييره الصارمة التي تحدد حركة الانسان في الفراغ، فمثلا في العمران الأفقي، يكون البيت دورا واحدا فيه حجرة للمعيشة وفيه حجرة للضيوف وفي اطراف البيت هناك الحظيرة وبيت الطيور، هذا بالنسبة للرؤية الفلاحية المصرية على الأقل للتعامل مع الفراغ في القرية.أما الرؤية الرأسية للعمران ففيها حديقة محيطة بالبيت، وفيها ادوار مختلفة جميعها يصلح للسكنى وبها احيانا حديقة في أعلى البناية أو «السطوح» أو ما يسمى بالروف جاردن (Roof Garden)، يسكن الطابق العلوي غالبا «الناس اللي فوق» الـ «هاي لايف»، البنت هاوس، هذا عمران محدد تجده في المدن الغربية الكبرى مثل لندن وباريس، عمارة تحكمها رؤية معماريين كبار مثل أوسمان، أو لانفا، أو رايت.المعمار الأفقي له مزاياه والمعمار الرأسي له مزاياه أيضا، شريطة عدم الخلط بينهما، فليس هناك عيب في معمار القرية المصرية الأفقي مما يجعله أقل من المعمار الرأسي، في وسط قاهرة اسماعيل باشا في القرن التاسع عشر، المعروف الآن بوسط البلد، وسط البلد صممه المهندس الفرنسي لانفا الذي صمم واشنطن العاصمة، الى هذا الحد كانت قاهرة القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تتبنى المعمار الرأسي وكان الريف المصري يتبنى المعمار الأفقي، وكلاهما كان نظيفا وانيقا وملائماً لمعيشة اصحابه، وعندما حدث مشروع ترييف المدن في عهد عبد الناصر وما بعده، لم يبن جماعتنا معمارا جديدا، فعندما حاولوا بناء عمارة رأسية، لم يلتزموا بقوانينها، هم فقط جعلوا الافقي رأسيا، ولك أن تتخيل المشهد.. البيت الريفي المكون من مكان للمعيشة وللضيوف وفي أطرافه توجد عشة الفراخ وحظيرة البهائم، رفع من طرفه من عند العشة، واقيم ليصبح عمارة رأسية تكون «العشة» قمتها، لذا نجد أسطح العمارات في القاهرة والتي كانت تمثل الادوار العليا والرووف جاردن والبنت هاوس، والناس اللي «فوق» و«الهاي لايف» اصبحت اليوم مكاناً لسكنى البواب والخدم وتربية الفراخ لا تربية الزهور.رؤية العالم من خلال العشة تقلب الموازين، فأصبح «اللي فوق» يعني البواب والعشة والسكان العشوائيين، ممن يمارسون البغاء على اسطح المنازل احياناً، كما جاء في رواية علاء الاسواني الموسومة «عمارة يعقوبيان» أما «الباشوات» فهم يسكنون الادوار السفلى، اذن اختل مفهومنا لما هو فوق وما هو تحت، وهذا ما عبر عنه مطرب العشة الغنائية «حبة فوق وحبة تحت». فإذا ما قبل صديقي عبد المنعم سعيد بمفهوم العشة واختلال المعايير فإنه لن يجد غرابة في ان تقيم نقابة الصحافيين المصرية مأتماً وجنازة حارة لرجل قضى على الصحافة وحريتها في العراق، النظر من العشة يجعل هذا الأمر منطقياً، هذا اذا ما نظرنا إلى الصحافة من عبد الناصر وما بعد في اطار ذات العمران، اي ان مصر الآن تربي صحافة «ع السطوح» كما يربي البواب وسكانو السطوح فراخاً هناك، ساكنو السطوح لا يشتمون رائحة البيض الفاسد، ولا يشتمون رائحة «زبل الحمام»، يرون في كل هذا وضعا طبيعيا، فقط يشتم هذه الرائحة رجل قادم من بعيد يزور السطوح، أو رجل يسكن في الدور الثالث، وفجأة يذهب الى السطوح ليشم الهواء فيجد هناك كل هذا العفن ولا اكسجين ولا يحزنون.ساكنو العشة الصحافية في مصر لا يتغير حالهم إلا اذا بني معمار رأسي اساساً، وليس قلب المعمار الافقي لكي يصبح رأسياً وتبقى العشة في قمة البناء الاجتماعي والثقافي والسياسي.مجتمعاتنا اليوم تقبل بالفساد في قمة الهرم الصحافي والاجتماعي والسياسي، لاننا نقبل العشة، نقبل ان «اللي فوق» واللي «ع السطوح» هو مكان العفن والرائحة الكريهة، انه كزمولوجي (Cosomology) العشة، وكزمولوجي هي رؤية الفرد لنفسه وللعالم من خلال هذا المنظور.عندما شغلت مصر اخيراً بحديث «الساعة» حول الصحافيين المصريين الذين ذهبوا إلى واحدة من الدول العربية وتقاضوا «ساعات رولكس ذهبية» كما تقول الصحافة، هذه هي رؤية العشة، الصحافة لم تعد خدمة اعلامية، ولم تعد لها مثل أو قيم، الصحافة في مصر هي «فوق أوي» ليس لأنها الاعلى وانما لانها في السطوح، في العشة، اعرف انني سأتلقى السهام والطلقات النارية، من الناس «اللي فوق» من ساكني العشش الصحافية، ولكن لا عليك. فسيأتي يوم يقال فيه ان بناء العشش على أسطح المنازل هي ادوار مخالفة للقانون ويجب ازالتها.نقطة اخرى، الحديث عن تغيير بعض بنود الدستور في مصر اليوم هو تغيير في الشكل، رغم اهميته، إلا انه لن ينصلح حال البلد إلا بإزالة العشش السياسية، «اللي فوق السطوح» التي تحاول أن تجمل في مدخل العمارة دونما المساس بالعشش، المطلوب قانونيا هنا هو ازالة الادوار المخالفة، وبذلك نقضي على مصادر الرائحة الكريهة والاساسية للتلوث السياسي والثقافي والاعلامي.العراق اليوم يمكن النظر اليه على انه معركة بين رؤيتين، رؤية معمار، أفقي ريفي، ورؤية معمار غربي رأسي، وان المحاولات التي نراها اليوم من حكومة المالكي ومن دول الجوار وحتى من الامريكان هو التوصل الى حل وسط يرضي جميع الاطراف، اي ان يحدث تزاوج بين المعمار الافقي والمعمار الرأسي، نتيجة هذا التزاوج الطبيعي هي ان نبني عراقا غربيا، عمارة رأسية، ونزاوجه بالأفقي، ونقبل بعشة او عشش فوق سطح البناء، معنى ذلك اننا نقبل بمليشيات مقتدى الصدر وجيش المهدي على قمة العمارة في عشة عسكرية على السطوح.انظر الى لبنان اليوم، ترى ان العمارة الرأسية التي كانت في بيروت، دخل عليها جماعة الجنوب واقاموا الضاحية الجنوبية، وفجأة تحولت العمارة الجميلة المسماة بيروت او لبنان الى عمارة مهترئة، عليها عشش الفراخ فوق السطوح. طبعا ساكنو العشة يحاولون إظهار اهمية موقعهم الاستراتيجي فوق السطوح، لأنهم من هناك سيقاومون اسرائيل، لأنهم يرون بشكل افضل، من فوق السطوح.. وفي رؤية العشة المسيطرة على الاعلام العربي اليوم نقبل بمثل هذا المنطق، لأننا ايضا قبلنا مبدأ ان تكون هناك عشة وفراخ فوق السطوح، لا نشتم الرائحة الكريهة ولا نسمع الضجيج، نستغرب صوت شعبان عبد الرحيم على صوت عبد الحليم حافظ وصوت «الواد ويكا» على صوت فيروز.في فلسطين حاولت منظمة التحرير الفلسطينية بناء عمران رأسي للتحرير في رام الله ، وجاءت جماعة غزة وأقاموا عشة فوق القضية، وبما ان القضية الفلسطينية هي قدس الاقداس العربي، اصبحت اليوم هي مركز جذب لجماعات العشش الاسلاموية، والاعلامية، والسياسية والثقافية، اقامة العشة في فلسطين تبرر اقامة العشش في كل العالم العربي، وتضفي شرعية وقدسية على اهمية العشة بالنسبة لأي بناء في الحاضر او حتى في المستقبل.العشة عكست المفاهيم، «اللي فوق» الثقافي والسياسي والاجتماعي هو العطن، واللي تحت، هو السليم احيانا، ولكن يتحكم فيه البواب الذي يسيطر على العشة في السطوح، العالم العربي اليوم يسكن عمارة محاصرة بين العشة، والبواب المتحكم في باب العمارة والمتحكم ايضا في العشة، لذا اقترح بدلا من مهادنة البواب وساكني السطوح للقضاء على الرائحة الكريهة للفراخ، ان نهدم العشة، ان نهدم كل العشش، لأنها بناية مخالفة للقانون.

التعليقات