مصر الكبرى

07:56 صباحًا EET

مولد ستنا المحروسة

هذا مقال كتبته بعد أربعة أشهر من قيام ثورة ٢٥ يناير يصف الحال حتى الآن ولن أغير فيه حرفا واحدا

منذ الطفولة يشدنى دائما مشهد الاحتفال بمولد الحسين فى القاهرة أو مولد السيدة زينب أو حتى مولد سيدى عبدالرحيم القنائى إلى جوارنا، وكنت دائما أتصور، وقبل دراستى للعلوم السياسية، أن فى المولد تلخيصا للحالة المصرية. الناس يذهبون إلى المولد من أجل قضاء حاجات ملحة عجزوا عن قضائها بأنفسهم بعد أن ضاقت بهم السبل وقلت حيلتهم وتقطعت بهم السبل، فيستعينون بالأولياء للتوسط لهم عند المولى عز وجل كى يفك كربهم. وبعض المجتمعات والمفكرين والمذاهب يحافظون على هذا السلوك، ولكن ما يهمنى هنا هو الظاهرة ومغزاها فيما يحدث فى مصر الآن وتداعياته.

فى لحظة الكرب هذه يقصد الناس ربهم بقلب طهور، ولكن ليس كل من ذهب إلى المولد قضيت حاجته، ففى المولد دائما مشاهد جانبية تشد الناس بعيدا عن القصد وأحيانا تنسيهم إياه، وهذا ما أشهده اليوم. أراقب ما يحدث فى مصر الآن بحزن شديد، ذلك لأن هناك إصرارا على أن يبقى المشهد سجين العروض البهلوانية الجانبية لمقصد فك الكرب عن وطن. عرض لبنات الحلو، كما كان يقال لنا فى مولد الحسين، يقمن بالسحر والشعوذة وتوقظ أجسادهن اليافعة التى تتكشف وتتعرى بحركاتها البهلوانية الرغبات الكامنة فى مجتمع محافظ، فمع السحر ورائحة البخور من المقام وكشف المفاتن تنبعث روائح الشهوة.
وهذا تقريبا المقابل الموضوعى لبرامج «التوك شو» الإعلامية فى مصر، حيث ينبهر الناس بالبنات على الشاشات وبما يبدو جرأة وديمقراطية فى الحوارات والمعارك الكلامية وينسون القصد الأساسى الذى ثاروا لأجله وهو الوطن المريض. هناك أيضا ذلك الرجل الطاعن فى السن الذى يمشى ومعه قرده بسلسلة فى يده ويقدم عرضا هزيلا فى بلد لم تكن أبدا القرود ضمن حيواناته، فينبهر بألعاب القرد صغار العقول، ويدور حوار حول القرود، من يقولون إن القرد أصلا كان إنسانا أيام ثورة يوليو ثم «انسخط وأصبح قردا». هذه مشاهد من مولد الحسين أعرف أن منكم من يستطيع أن يميز مقابلها فى المشهد الأساسى، بل يستطيع أن يضع إصبعه عليها وهو مغمض العينين.
على الجانب الآخر، من البهلوانات ومشاهد إثارة الرغبة فى المولد، هناك مشاهد الشعوذة. فهناك يقف رجل اشتعل الشيب فى لحيته ومكحل العينين يحمل مبخرته ويقرأ الطالع، أو يضع فى يديك ترابا فتفتح يدك فإذا هى بيضاء من غير سوء. ومتى ما آمنت وسلمته ما جئت به إلى القاهرة من شحيح المال، وابتاعك به بضاعته من بخور وأوراق تحصين الروح والجسد، حتى تكتشف أنك بقيت عنده وتمسكت به ونسيت أن تصلى فى الحسين أصلا، أى نسيت الهدف نفسه! وهذا ما يحدث الآن فى مصر بداية من الحوار الوطنى الذى هو مجرد عملية لتحويل الثورة من فعل فى الشارع إلى ملاكمة ومعارك جانبية، أى تفريغ الثورة من محتواها ومنحنا «بو» و(البو) هو جلد رضيع البقرة المحشو بالقش يقرب من البقرة الأم لكى تدر حليبها. وقد كتبت فى هذا مقالا كاملا بعنوان «ثقافة البو» فى هذه الصحيفة. الهدف من البو هو أن تشم البقرة رائحة رضيعها الذى مات أو باعه صاحبها فتحن ضروعها، وهى استعارة لمصر التى تدر لبنها لكل «بو» يقترب منها، وما أكثر جلود البقر، وهناك اليوم فى مصر بدل البو مائة أو أكثر مما تعدون، الكل يريد أن يحلب البلد.
نسى الذاهبون إلى مولد ستنا المحروسة، أن الهدف هو حماية البلد من اللصوص والنصابين، ولكن كثيرا من السحرة والحواة والنصابين هم اليوم نقباء المقام وسدنة المشهد الحسينى.. وما من صعيدى مثلى ذهب إلى مولد الحسين إلا سرقت أمواله قبل أن يترك المقام. أنا لا أقول إننا مجتمع من الحرامية، ولكننا مجتمع ساذج دفعته الحاجة وحالة الكرب التى تستحوذ عليه إلى زيارة الضريح، وأخذ النصابون مشاهد جانبية من عالم السحرة والحواة، مجتمع بهرته أضواء المولد وأضواء القاهرة ونسى ما جاء من أجله، وسرقت أمواله فوق كل هذا.
إننا أمام حالة بلد يسرق فى وضح النهار. ولكن أملنا فى الجيش، تلك المؤسسة الوطنية الحامية للمشهد، أملنا فى هذه المؤسسة أن تلم الحواة وأن تلقى بعصاها كى تأكل ثعابين السحرة.. أما ما نراه الآن فالحواة يغمزون للجيش ويطالبون بأن يمنحوهم فترة لأكل العيش.
سبب زيارتنا يا سادة للضريح هو أن لدينا وطنا مريضا صعدت روحه إلى الحلقوم، جئنا للدعاء له بعد أن ضاقت بنا السبل، فمن فضلكم يا سدنة الشاشات لا تلهوا جماعتنا عن القصد، لا تأخذوهم إلى بنات الحلو، فالبلد يشرب اليوم من كأس مر.
 

التعليقات