مصر الكبرى
قوانين الشريعة ليست من عند الله
تصر الجماعات السلفية وتنظيمات الإسلام السياسي على النص في الدستور المصري على أن تكون الشريعة الإسلامية هي مصدر القوانين في مصر. وهم يدعون أن الشريعة هي أحكام إلهية واجبة التنفيذ – ليس فقط في المسائل الدينية – بل كذلك في المسائل الحياتية والإجتماعية. ويعتبر الإخوان المسلمين أن الشريعة هي قوانين منزلة من عند الله, بينما القوانين التي يصدرها المشرعون الذين ينتخبهم الشعب هي قوانين من وضع الإنسان.
إلا أن الإخوان هنا يعتمدون على فكرة خاطئة – وإن كانت شائعة – بأن "الإسلام دين ودولة". فالإسلام عقيدة وعبادة, حيث تقوم العقيدة الإسلامية على وحدانية الرب الذي لا يتمثل في صورة, وقيامة الأموات للحساب في الآخرة. ونحن لا نجد في القرآن ولا في الأحاديث النبوية نصا واحدا يتحدث عن الإسلام باعتباره دولة, ولا عن الرسول باعتباره حاكما لدولة. فمع أن النبي استطاع خلال حياته توحيد قبائل الجزيرة العربية في أمة واحدة, فهو لم ينشئ دولة سياسية ولم يشكل حكومة. كان اعتناق القبائل للإسلام يتمثل في النطق بالشهادة ودفع الزكاة, التي كانت توزع على الفقراء. ولم ترد كلمة "حكم" في القرآن للدلالة على الحكم السياسي, وإنما جاءت بمعنى التحكيم: "فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم" أما رجال السلطة – وهم عندئذ رؤساء القبائل – فقد أطلق عليهم القرآن تعبير "أولي الأمر", "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم".
وهناك فارق بين الأمة والدولة. فبينما تمثل الأمة جماعة من الناس تربطهم روابط الهوية والتاريخ والثقافة واللغة والأصل, فإن الدولة مؤسسة سياسية لديها وحدها الحق الشرعي لاستعمال القوة داخل حدودها, ولديها قوات مسلحة وجهاز إداري وبيروقراطية ومحاكم وشرطة. ومع ذلك فإن النبي محمد لم يكون حكومة للأمة الإسلامية, كما لم يتحدث عن أية حكومة في المستقبل, ولم يطلق عليه القرآن صفة حاكم "وما محمد إلا رسول".
أما السبب الذي أدى إلى اعتبار الإسلام دين ودولة, فيرجع إلى نظام الخلافة التي بدأ بعد وفاة الرسول مباشرة. فقد نشب خلاف بخصوص مستقبل الأمة الإسلامية التي أقامها النبي بعد وفاته, حيث بدى وكأن تحالف القبائل الذي كونه سوف ينهار. وبينما أراد الأنصار الاستقلال في إدارة شئونهم في المدينة, رغب المهاجرون الإبقاء على تحالف القبائل تحت إمرتهم. اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة لإختيار رئيس لهم, وعندما علم المهاجرون بأمر هذا الاجتماع, نصح عمربن الخطاب أبو بكر بالذهاب إلى السقيفة, وتحدث أبو بكر إلى الأنصار قائلا إن رئاسة العرب يجب أن تكون في قريش. ثم رشح عمر أبا بكر ليكون رئيسا للمسلمين, وتمت مبايعته ليكون خليفة رسول الله. وصار الخليفة أبو بكر رئيسا مدنيا للعرب ورئيسا دينيا كذلك, مع أن النبي لم يعين لنفسه خليفة ولم يتحدث عن الخلافة طوال حياته, كما لم يتحدث القرآن عن خلافة النبي, فالنبوة مسألة شخصية لا تورث.
رفضت القبائل دفع الزكاة للخليفة, حيث اعتبرتها إلتزاما للنبي وللفقراء فقط. وفي محاولة منه لتحويل الزكاة – التي هي من الأعمال الخيرية – إلى ضريبة تدفع للحكومة الجديدة, كون أبو بكر خزانة حكومية لجمعها, ودخل في حرب مع القبائل لإجبارها على دفع الجزية وقبول سلطة الخلافة المركزية في المدينة. ومع هذا فعندما امتد نفوذ الدولة الإسلامية خارج حدود الجزيرة العربية, وصارت الخزانة الحكومية تحصل على الضرائب والجزية من الشعوب التي حكمتها, لم تعد الزكاة فرضا على المسلمين يقدمونها إلى الحكومة بل صارت تقدم للمحتاجين مباشرة, وهو الوضع السائد الآن في جميع الدول الإسلامية.
عندما امتدت حدود الدولة الإسلامية لتصبح إمبراطورية واسعة بين الصين في شرقي آسيا وإسبانيا غربي أوروبا, كان على الدولة الجديدة إعداد القوانين التي تنظم أمور الناس. واعتمادا على القواعد التشريعية التي وردت في القرآن والسنة, قدم الفقهاء وجهات نظرهم وتفسيراتهم لما يعتبرونه تشريعا يتناسب مع الدولة الإسلامية, بما في ذلك اقتباسهم لبعض القواعد المطبقة في الدول التي فتحوها. وعندما قام القضاة والحكام باختيار بعض هذه الآراء في أحكامهم التي أصدروها, صارت هذه الاحكام تعرف باسم الشريعة التي جمعها العثمانيون وقننوها, أي القانون الذي يحكم الدولة الإسلامية. وكما نرى فإن هذه الشريعة ليست قوانين إلهية وإنما هي من صنع البشر.
بخلاف قطع يد السارق, تكاد كل التشريعات التي وردت في القرآن – الخاصة بالزواج والميراث – تكون متضمنه حاليا في القانون المصري. أما اعتبار شريعة الدولة الإسلامية جزءا من الإسلام فهو سوء فهم. فعندما اتسعت الدولة الإسلامية خارج حدود الجزيرة العربية, كان ولاء الشعوب التي اعتنقت الإسلام في هذه الدولة للخليفة بصفته حاكما وكذلك بصفته خليفة للرسول في شئون العقيدة, كان من الطبيعي لهؤلاء الذين اعتنقوا الإسلام اعتبار الخليفة رئيسا لكل من الدولة والديانة. وقد أدت الطبيعة الثنائية لدور الخليفة كحاكم ورئيس ديني إلى الخلط في فهم طبيعة الإسلام وهل هو عقيدة دينية أم حركة سياسية.